المقيمون في نظرات المركزية الأوروبية يقرنون بداية تاريخ الحضارة الإنسانية بالمرحلة اليونانية البيزنطية، ثم يقفزون بالخارطة الحضارية إلى تخوم القرن الثالث، عشر لحظة انبثاق الرينسانس “ النهضة الأوروبية “ متجاهلين كامل القرون التي كانت بمثابة جسور كبيرة بين الحضارة اليونانية والنهضة الأوروبية، كما كانت تلك القرون بمثابة جسر أشمل في أفق التواصل بين اليونانيين والمشرقيين الممتدين من الصين والهند حتى فارس وبقية بلدان آسيا. يتجرأ البعض على التاريخ الحقيقي لكي يضع محله تاريخاً للأوهام المركزية التي لم تقف عند حدود التلفيق للتاريخ الحي بل تمنْطقت أردية عصبوية شوفينية وصولاً إلى العنصرية المقيتة، فالنوع الأوروبي الأبيض هو صانع الحضارة، والملونون الجنوبيون لا يصلحون إلا لخدمة أسيادهم . عشاق المركزية الأوروبية يقدّسون نظرات أفلاطون صاحب الجمهورية الطوباوية الطبقية المراتبية، يحبونها فقط لكونها أول نظام افتراضي يؤصل للعبودية مفاهيمياً وممارسياً، فأفلاطون يرى أن المجتمع الفاضل يتكوّن من 3 طبقات : طبقة النخبة من الأسياد والحكام والفلاسفة، وطبقة الجنود المعنيين بخوض الحروب وحماية النخبة، وطبقة الجماهير الغفيرة الدونية الذين يعتبرهم عبيداً اعتياديين. هذا التقسيم الطبقي المؤصل بالمراتبية الخسيسة أعجب العنصريين والمستغلين والشوفينيين والمتعصبين دينياً، وهكذا فإن نظريات المركزية الأوروبية خلعت أفلاطون من مداه الإغريقي المحدود، وانتقلت به إلى آفاق عالمية، وكان لهم تبعاً لذلك أن يفصّلوا تواريخ الحضارات على مقاساتهم العنصرية، وأن يمسحوا من كتب الجغرافيا والتاريخ والاكتشافات والعلوم والفلسفات قروناً بكاملها، فالحضارتان الهندية والصينية لا وجود لها في عُرف هؤلاء، وإسهامات المسلمين والعرب في الفترة التي تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية لا حضور لها أيضاً . ينسى هؤلاء أن “ سافونارولا “ و “جوردانو برونو” و “توما الاكويني” و “ مارتن لوثر” الإصلاحي وغيرهم، إنما نهلوا من كتابات ونظرات العلماء المسلمين الكبار أمثال الفارابي والرازي والغزالي وابن سينا، كما ينسون أن علوم الآلة والرياضيات والكيمياء انتقلت من العلماء المسلمين إلى أوروبا القرون الوسطى محملة بالإرث الإنساني الواسع في هذه العلوم والمعارف .