قبل بضعة عقود خلت كان الانتماء القومي فكراً وعقيدة وسلوكاً، لكنني أخاله اليوم قد تحول إلى شعار وهتافات للمزايدة، وإلاَّ من يصدق أن ابنة الزعيم عبدالناصر تدخل اليمن وتخرج منها من غير حفاوة إعلامية؟ في يوم الأحد الماضي كانت الدكتورة هدى جمال عبدالناصر في زيارة لمقبرة الشهداء المصريين في اليمن،وكنا أنفاراً قليلين نرافقها إلى هذه المقبرة التي تعيد لذاكرتنا أمجاد الثورة اليمنية، وثوارها وملاحمها،والجيش المصري،والمعلم عبدالناصر، وأمجادنا القومية التي قهرت كل الحدود الجغرافية..! حين انهمكت الدكتورة هدى بتلاوة الفاتحة، وذرف دمعات عند بعض القبور،نظرت حولي وتساءلت: ياترى هل الوضع اليمني كذلك حين زارت «الشحرورة» و«نانسي عجرم»،و«هيفاء وهبي» وغيرهن من الفنانات يمننا السعيد!؟ ألم يتهافت قياديو الاحزاب والتنظيمات إلى الفنادق للاحتفاء بهن والاحتفال معهن.. فما بالهم اليوم يتجاهلون الاحتفاء بابنة الزعيم الذي لم يبخل بدماء شعبه لنصرة ثورتهم، والدفاع عن كرامتهم الانسانية وحرياتهم وأهدافهم التي ينشدونها!؟ في اللحظة التي تأملت فيها ابنة الزعيم عبدالناصر وهي تتجول بين القبور كما الغريبة استعادت مخيلتي مشهد الناصريين في اليمن إبان انتخابات 1997م،وهم يجوبون شوارع الضالع بزامل يقول: «الناصرية من هدف ناصر.. وحدة اشتراكية وحرية،هزت كيان الغربي الكافر.. أهداف قومية عربية،إن كنت يميني انحرف ياسر.. مالك بين الجمهور شعبية،ماهو كل من جاء قال أنا ثاير .. وهو تبع أهداف رجعية».. فأين ذهب هؤلاء في عصر الديمقراطية الأمريكية!؟ وأين زواملهم، وحماسهم إن كانت ابنة عبدالناصر القادمة من خلف البحار تسكن غرفة فندق وليس بيت أحد الميسورين.. ولاتجد قائداً سياسياً واحداً يقيم مأدبة على شرف وصولها وزيارتها لليمن .. رغم أن الجهات الرسمية قامت بواجبها وأكثر ولكن الأمل كان في الجهات الشعبية «غير الحكومية» بأن يظهروا بعض الوفاء لأبيها الراحل.. الدكتورة هدى غادرت اليمن فجر يوم الاثنين دون أن تكتب عنها الصحافة اليمنية خبراً واحداً باستثناء المقابلة التي أجرتها «26 سبتمبر» في حين عندما قدمت «عجرم» «الشحرورة» إلى اليمن لم يبق رجل أو امرأة أو طفل إلاَّ وعلم بوجودها بفضل الترويج الإعلامي السخي.. كنا نعرف أننا في زمن الانتكاسة العربية،والعولمة،والمشاريع الشرق أوسطية،لكننا لم نكن نعرف أن شعوبنا انتكست في قيمها وعقائدها،وأخلاقياتها أيضاً.. فهذه كارثة ستدفع الأجيال القادمة ثمنها باهظاً جداً.. لذلك أصبح بوسعنا الآن فهم مقاصد تلك الكتابات التي ظهرت مؤخراً وهي تشكك بالثورة، وأهدافها،وحتى أدوار مناضليها، وأسباب استشهاد أبطالها..! فالتاريخ على مايبدو لم يعد ذا قيمة معنوية للكثيرين..والرموز الذين كنا نحسبهم خالدين قد طوتهم الذاكرة، ولم يعد أمامنا غير «الديمقراطيين الجدد» الذين يحرصون على طمس ذاكرة أجيالنا لكي لانقارنهم برموزنا الوطنية والقومية،فنكتشف ضآلتهم،وتفاهة قيمهم، ومبادئهم، وسياساتهم التي يعملون بها. كنت أعتقد أننا شعوب نتداول انتماءنا القومي بالوراثة والفطرة، لكن أثبتت الأحداث أن ذلك غير صحيح، وأن علينا أن نغرس القومية في نفوس أطفالنا كما نغرس فسيلة النخل.. فالديمقراطيون الجدد صاروا يمسخون كل معالمنا الجميلة، وكل أسباب عظمة تاريخنا، بما في ذلك ثقافتنا الوحدوية!؟