الثورة اليمنية، سبتمبر وأكتوبر، محطة خلاص لعهود من الاستبداد والاحتلال دفع فيها الشعب أثماناً باهظة حتى تحقق له الخلاص بفضل توفيق الله سبحانه وتعالى،و من ثم التضحيات الجسام التي قدمها المناضلون والأحرار على درب الحرية، حيث يخبرنا التاريخ عن حجم تلك التضحيات التي تنوعت بين الاستشهاد،السجن،التشريد، الهجرة، ليدفعوا بتضحياتهم عن كاهل الشعب ألوان الظلم والاضطهاد والحرمان من أبسط الحقوق الأدبية. وحين أقدم أولئك الأبطال على تقديم أغلى مالديهم أرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية، لم يطلبوا لأنفسهم عائداً مالياً، أوترتيب أوضاع أبنائهم في مستويات السلطة، لقد كانوا كرماء، وكانوا أكرم منا، فاحتسبوا ماقدموه ثمناً ينبغي دفعه ترجمة عملية لمعاني الانتماء والمواطنة التي تشكل عنواناً لقدسية الوطن،وواجب الدفاع عنه من كل الزوايا الدينية، والتاريخية،والوطنية.. ولكنهم مع كل ذلك ربما خامرتهم فكرة الإنصاف التاريخي لأدوارهم وأن تحضر اسماؤهم في ذاكرة التاريخ عبر نقلها في عقول ونفوس الأجيال ليكونوا مثلاً وأمثلة حية توجه الناشئة في اتجاه استيعاب تلك التضحيات وفهمها فهماً سليماً في سياق المسئولية الوطنية التي ينبغي أن تكون على رأس قائمة أولوياتهم، بل تكون الأولوية التي لايفترض أن تكون هناك سواها على قاعدة ايمانية مطلقة بأن من مات دون ماله،أو عرضه،أوحقه فهو شهيد، وبالتالي، يحتسب الدفاع عن الوطن تجسيداً حقيقياً لمعاني الايمان التي تحث وتستحث الانسان للدفاع عن مصالحه التي على رأسها وفي مقدمتها مصلحة الوطن التي تمثل مصلحة كل الناس ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. نعود ونقول إنهم ولعلهم احتسبوا ماقدموا عملاً في ميزان المواطنة وترجمة معانيها،واعتبروا أن ذاكرة الوطن المستقر الحي لماقدموه،ولذلك كله نجد الشعوب والأمم تعمل بشتى السبل والوسائل لتخليد شهدائها،وأبنائها الذين قدموا على طريق انعتاقها وتقدمها،وصناعة التغيير فيها فتزين باسمائهم واجهات الشوارع والمؤسسات العلمية والثقافية والاجتماعية،والتعليمية وتصدر عنهم الاصدارات المختلفة،وتحتفل بعطاءاتهم على نحو لاينقطع، عبر جعلها مادة ثقافية. تلك هي الحقيقة التي تعيشها المجتمعات أو تتناقلها بحس أمين وجهد منهجي دقيق، يعتمد على التربية وسيلة ووسيطاً لحضور هذه الحقيقة وتأكيدها في عقول الناشئة،وترسيخها في أذهانهم قناعة مطلقة ممتدة إلى عمق القناعة بالوطن والوطنية،والمؤسف أن هذه الحقيقة وجدناها باهتة واهنة لاتشكل في حياة المواطنين شيئاً له تلك المكانة العالية الرفيعة في سلم الحياة،وفي مستويات تفكيرهم،وزوايا الاعتزاز لديهم. لقد صدمت أكثر من مرة بوعي خالٍ من رموز النضال الوطني بمراحله المختلفة،ومنها المرحلة المعاصرة المتمثلة بصناع الفجر الذي بزغ ليشكل نهارنا المشرق هو فجر ثورة سبتمبر العظيم،ووليدة المجيد اكتوبر.. ومما يجعل تلك الصدمات جراحات في القلب والعقل والوعي،أنها جاءت من محيط يفترض أن يكون قد خزن في ذاكرته كل تلك الرموز،ومواقعها في مسيرة الانعتاق والتحرير. ومما يجعل تلك الجراحات أحزاناً عميقة، انصراف نسبة من الشباب في اهتماماتهم إلى جوانب وأمور هي أقل مايمكن أن يصرف لأجلها وقت وجهد.. ولانجدهم يحتفظون في ذاكرتهم بشيء من تلك المعلومات التي درسوها عن بعض الرموز الذين شاءت الأقدار أن ينالوا قسطاً من الوفاء.. نعم لقد كانت صدمتنا كبيرة ومؤلمة حين لم يجب بعض أبنائنا عن أسئلة تتصل بالأستاذ المناضل المرحوم أحمد محمد نعمان ورفيق دربه وتوأم فعله النضالي الشهيد محمد محمود الزبيري الذي احتوته الكتب المدرسية،وتشرفت بالترجمة لحياته ومسيرته أكثر من وسيلة اعلامية وعلى رأسها التلفزيون.. وكذا عن الشهيد محمد مطهر زيد رفيق الشهيد علي عبدالمغني وساعده في الفعل الثوري السبتمبري،والقائمة طويلة،ومنها الشهيد عبدالله علي الحكيمي..والسؤال المحوري في هذه المسألة المؤلمة والمزعجة لكل ذي عقل وقلب مخلص ومنتمٍ لهذا الوطن، ويريده أن يكبر وينمو ويتطور ليصل إلى مصاف الشعوب الأخرى كيف له أن يحقق كل ذلك وهو يفقد الذاكرة،ويفتقد البوصلة التي صنعها وحدد وجهتها رجال نسوا أنفسهم، لكي يعيش في ذكراها غيرهم؟ إننا بحاجة ماسة إلى مراجعة ماتحتويه برامج التنشئة والتربية والتكوين للشخصية الوطنية، القومية، الاسلامية، الانسانية، بوقوفها بقناعة مؤمنة على أرضية المواطنة والاقرار بحقها، وأولويتها على كل أولوية أخرى،وبجذور ممتدة إلى عمق الأرض والتاريخ،ومسيرة الانسان اليمني العربي المسلم،وحصاده التاريخي الذي يجب أن يكون شجرة وارفة الظلال، ينعم بعطائها الدائم الناشئة الواحد تلو الآخر. إن هذه المراجعة مسئولية وطنية،ولذلك فهي دعوة صادقة لكل الجهات لتقف عليها وتعمل على سد الفجوات التي تسببت في هذا الصدع في ذاكرة الجيل المعاصر نطلقها من على صفحات هذه الصحيفة الغراء التي يجب على أجيالنا أن تدرك خلفية الاسم الذي يزينها ويمنحها جلالاً وزهواً ودلالات تاريخية ومستقبلية في ذات الوقت والله من وراء القصد.