على الرغم من ندرة الصحف المحلية - أهلية وحكومية وحزبية - في حضرموت قياساً بما كان عليه الحال في زمن مضى، عندما كان يصدر فيها خمس صحف أسبوعية، إلا أن الوضع البائس والجفاف الذي تعيشه هذه الصفحات في صحفنا الحكومية والحزبية بحاضرة حضرموتالمكلا، يضع أكثر من علامة استفهام على طاولة القائمين على رئاسة تحرير هذه الصحف وهيئات تحريرها ومحرريها، وإذا كانت صحافتنا المحلية لا تعنى بالمنتج الثقافي والأدبي الإبداعي وتعمل على نشره وتقويمه وقراءته ودرسه، وإن فعلت فعلى طريقة (شيلني وشيلك، وسندنا وباسندك ، ولمعنا وبالمعك، وهبر لي وبا هبر لك)وهو الأمر الذي نلمسه اليوم في حالات كثيرة لعرض بعض الكتب التي لا تنتسب بصلة للثقافة والتاريخ والمعلومات العامة، ولكن النفاق الصحفي لفاقدي الحس النقدي والقراءة الثقافية الواعية يمارسون بفعلتهم هذه أو تلك الخديعة والتزوير من خلال الترويج لبعض الكتب التي تصدر في غيبة وغيبوبة قاصمة لثقافة المجتمع، وتعمد هذه الأقلام العارضة للغث من الكتب الصفراء لهشاشة مضمونها إلى تشويه تاريخ ثقافي ثري عرفته الصحافة في حضرموت في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي الذي شهد حضوراً كبيراً للعديد من الأقلام الأدبية والثقافية الكبيرة كالأساتذة محمد عبدالقادر بامطرف، محمد عبدالقادر بافقيه، سعيد عوض باوزير، احمد عوض باوزير، عبدالله عبدالكريم الملاحي، عبدالرحمن الملاحي، محمد عبدالقادر الصبان الذين تحولت كتاباتهم تلك إلى كتب نقتنيها ونتعلم منها حتى اللحظة كيف يكون للكلمة قيمة وجودة ورقي، إضافة إلى ما تركه غيرهم من المبدعين في قوافي الشعر عامياً وفصيحاً وكتاب القصة القصيرة والرواية، وهو الأمر الذي يؤكد توجه المجتمع برمته إلى مصفوفة الوعي والتحضر والقيم الإنسانية النبيلة، في حين نجد أن ما ينشر اليوم في صفحات الثقافة والأدب - باستثناء إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب فرع حضرموتالمكلا - الذي يمارس فعله الثقافي بعيداً عن سحب الدخان ومخلفات القات، إضافة إلى بعض الإصدارات والنشرات التي تصدرها جمعيات ومنتديات نظرت بوعي إلى الفكر والثقافة، في حين ابتعدت صحفنا الحكومية والأهلية والحزبية عن هذه الغايات التي تتحسس نبض الإنسان وهمومه ومعاناته بمسافات كبيرة لترسم لوحة الفراق (المأزق) الذي تعاني منه نخب (اللاثقافة)، وذهابها فيما تنشر وتكتب إلى زوايا ضيقة بعيدة عن العمق الثقافي والأدبي وقاطعة للتواصل ومهشمة للتراكم التراثي وماسخة للمنتج الإبداعي في حضرموت الأصالة والتاريخ والعمق. ارتبطت الثقافة في حضورها الفكري الأول في حضرموت منذ أكثر من نصف قرن، خاصة في مدينة المكلا، التي شهدت انبعاث النادي الثقافي 8فبراير1957- 22 أبريل 1958م، وهو النادي الذي اتخذ من هذا الكيان لافتة لنشر الوعي والثقافة والفكر العميق، وسخر الإمكانيات التي تختزنها عقول منشئيه كالراحل محمد عبدالقادر بافقيه الذي رأسه من لحظة ميلاده حتى إغلاقه بقرار من السلطان عوض بن صالح القعيطي، بإيعاز من المستشار البريطاني بوستيد، وشغل منصب نائب الرئيس عبدالله محمد باحويرث، وسعيد يسلم الرباكي سكرتير النادي، وعضوية كل من سعيد عبدالخير النوبان، وجمعان بن سعد، وسالم عبدالله بامطرف، وأبوبكر باسعد، وصالح عبدالله اليماني، وعمر محمد بن سهيلان، وعمر بلكديش، وعمر مرزوق حسنون، وعمر سليمان بن جسّار، وحسين صالح المفلحي، وأحمد هادي بهيان، وعمر محمد باهارون، كما جاء في قصة تأسيس النادي التي نشرها الدكتور صالح علي باصرة في عدد الحكمة(158) مارس 1989م، وقد جاء قرار الإغلاق نظراً للدور التوعوي والوطني الذي عرفته (رواقات وغرف) ذلك النادي التليد في مدينة المكلا، ومن هنا كان هذا التعالق الجدلي العميق، وفهم راق لمضمون الرسالة الثقافية التي ينهض وينشط بها هذا النادي المنتدى الجامع لكل ألوان الطيف الفكري والسياسي والوطني ساعتئذ، الأمر الذي رسخ في ذاكرة حضرموت هذا المثال الناصع، والمعبر عن الرقي العقلي والفكري للقائمين عليه، وتلازم ذلك التعالق بين النادي - المنتدى - والعمل الثقافي في فترة عصيبة في حياة مدينة المكلا خاصة الوطن عامة، ولكنها روح الصدق، وعمق الإيثار والتداعي المبكر لنشر الثقافة الصحيحة، البعيدة عن خيوط الدخان الكثيفة، والخالية من تلوثات الفكر المعجون بورق الشجرة السالبة لكل مقومات وتمظهرات المثقف الخاوي من نسيجها الأصيل. ومن مفارقات اليوم أن الكثير من المنتديات الأدبية والجمعيات الثقافية في حضرموت عامة، والمكلا خاصة، قد اتخذت من مشجب الثقافة والتراث عّلاقة لحضورها المجتمعي تحت ذريعة خدمة الثقافة والأدب والتراث، مؤكدة بعلو الصوت تمسكها بهذه الغايات، مدعيةً حين تمارس الفعل الثقافي الهش أنها تتغيا هذه الطموحات وتلك الأماني، والكثير من هذه الكيانات التي وجدت على ساحة المشهد الثقافي بحضرموت منذ سنوات عدة، مازالت تراوح مكانها، ولم تستطع الخروج من شرنقة الذاتية، والقاتية، والوقتية، والنظر للنشاط الثقافي والإبداعي بوصفه فرصة لالتقاط لحظة حضور مزيفة، لم تعد قادرة على تجميل لوحة مشوهة الخطوط، فاقعة الألوان، فبين الثقافة في مفهومها العميق وطرائق الفعل الذي تمارسه هذه الكيانات مسافة شاسعة لترجمة الصوت الثقافي في ملمحه الحقيقي العميق، لذا نأمل من هؤلاء أن يقفوا عند تجربة النادي الثقافي بالمكلا التي لم تستمر طويلاً، ولكنها نفذت أجندة ثقافية متكاملة وواعية، فهل يتمثل القوم ذلك التاريخ الناصع البياض؟؟!.