أتذكر لقاء قبل سنوات طويلة بيني وبين أحد الخريجين من كلية التربية في المكلا، وهو من سكان مدينة سيئون، كان قد تم تعيينه معلماً في مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة ليقوم بالتدريس في تلك المحافظة الريفية البعيدة. ومن سياق الحديث معه سألته كيف الناس هناك ، وكيف هو إقبال الطلبة وحرص أهل شبوة على التعليم؟ كان الرد من ذلك المعلم الجامعي قد نزل على أذني كالزلزال ، فقدت على إثرها توازني الفكري ، وكدت لم أصدق ما قاله ، فقد قال لي حينها: هل تصدق أن الدولة تبني لهم مدارس وثانويات ، وتبدأ السنة الدراسية وأعداد الطلبة يمتلئ بهم الصف ، ولا تكاد تنتهي السنة الدراسية إلا ويبقى من الطلبة في الصف الواحد على عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين.. شعب لا يرغب في التعلم وليس لديه طموح في التعلم وتطوير حياته. بل يا أخي إن الطلبة عندما أحثهم على العلم والاجتهاد والمذاكرة يأتيني الجواب والتعليق من كل حدب وصوب في الصف . إن الطلبة يجاهرون بالحجة والنقاش المقلوبين ، حيث أسمع منهم من يسأل كم هو الراتب الذي سأتقاضاه عندما أعمل بعد الثانوية العامة ! أو حتى بعد التخرج من المعهد ؟ أتدري يا أستاذ أنا اليوم هنا وبعد غد ستجدني عبر الصحراء في جدة أو الرياض وعلى رأس العمل ، هي فقط مسألة وقت ليس غير ذلك. مجتمع لا يهتم إن كان ابنه متعلمًا أم جاهلاً .. مجتمع يرى في الهجرة والاغتراب لأبنائهم أي كانت أعمارهم هو الهدف الذي يحلم به كل بيت هناك. وهي نظرة الغالبية العظمى من الناس هناك.. تلك النظرة أو التفكير هو السائد لديهم في ذلك الوقت. ليس لديهم طموح في تعليم أبنائهم ووقتنا وجهدنا كمعلمين وأموال الدولة تذهب دون فائدة أو لنقل فائدة ضئيلة جداً بل ومحدودة. هذه رؤية الناس لتعليم الفتيان أما الفتيات فلا داعي لشرح ذلك.. تلك العبارات قالها ذلك المعلم و من خلال حديثه وكأنه يقول : إننا نحفر في البحر. بعد تذكري لتلك الأيام ولذلك الكلام استنتجت أن الجهل مسيطر على العقول لذلك فإن جيل المتقاتلين بالسلاح في محافظة شبوة على شبر من الأرض هذه الأيام هم نتاج تلك الفترة المظلمة السوداء من تاريخ المحافظة ، والذين كانوا يحرصون على تعليم القراءة والكتابة والحساب فقط. وتذكرت شاباً من شبوة تخرج في تلك الفترة من معهد صحي قسم المختبر ( حيث وظيفته في مدينته تنتظره قبل التحاقه بالمعهد تلك الأيام) ، وبعد دراسة في المعهد لفترة لا تقل عن سنتين على ما أذكر وبعد تخرجه مباشرة هرب إلى السعودية كغيره وعمل سائقاً في أحد المؤسسات. وكنت أتساءل مع نفسي يومها أليس لدى هذا الشخص طموح ! ألم يكن مستقبله في وظيفة تليق بمستواه العلمي الذي حصل عليه أفضل مما هو عليه كسائق في مؤسسة خاصة ! ولم أضاع هذا الإنسان كل تلك السنين من عمره إذا كان في النهاية سيقبل أن يكون سائق سيارة!؟ أليس من الحرام أن يشغر مقعداً في هذا المعهد كل تلك المدة ، وهو لا يملك طموحاً أو رؤية لمستقبل يفيده ويفيد المجتمع.!؟ وهكذا دواليك هي الطريق التي مشى عليها الكثير واحد تلو الآخر. وكل واحد يخطو هذه الخطوة يتبعه في نفس خطواته عشرة ، وكل واحد من العشرة يسير على خطاه عشرة آخرين. ونفاجأ بأرقام كبيرة تترك الدراسة في أثناء العام الدراسي أو بعده ، وتكون المنطقة قد تفرغت من الجيل الذي من الممكن أن يسهم في بناء منطقته ونموها ونشر التعليم وارتقاء الحياة المعيشية للمجتمع والمنطقة على حد سواء. ولم يعد هناك فائدة تذكر من إنشاء مدارس ومعاهد إذا لم يكن للمجتمع المحلي فائدة مرجوة وملموسة من ذلك. حيث من يتعلم ويتخرج يصدر للخارج كالبضاعة ، يستفيد منها البعيد ويحرم منها القريب. هؤلاء لا يفكرون في المستقبل وليس لديهم طموح، ويصبح التعليم عندهم في محصلته النهائية كم الراتب الذي سأتقاضاه بعد كل ذلك!؟ شيء يدعو للأسف أن تفرّخ تلك المناطق وتلك المدارس جيشاً من الجهلة دون أن يعوا أنهم سيصبحون أول المتقاعدين قبل تقاعد المتعلمين. طبعاً تلك الصورة التي سردتها كانت في العهد الماضي، أما اليوم فإن الصورة لابد أن تكون قد تغيرت وإن لم تتغير بالكامل ، بل أقولها وبالفم المليان إنه رغم أنني من حضرموت إلا أنني أكون مسروراً جداً عندما تظهر نتائج الثانوية العامة ، ويكون اسم شبوة بارزاً في قائمة الأوائل. ليس معنى ذلك أن هذه المحافظة هي الوحيدة في هذا السياق، أو أنها تخلو من الكفاءات والمتميزين، لكن تذكرت ذلك ، وأحببت أن أدلل على موضوعي. وصديق آخر من ذمار يعمل إذا كانت عضلات جسمه تعمل ، مازال يعتقد أن دراسة الكتاتيب تكفي.. ويبدو أنه نسي أننا نعيش في عصر لم تعد دراسة الكتاتيب تحميه من عواصف هذا الزمن. رغم أنه في كثير من الأحيان لم يستطع التعامل مع الناطقين بغير العربية، والتي أصبحت ضرورة هذه الأيام. وبعد استفسار وسؤال وجواب يعلنها أن لديه ستة من الأولاد.. وبين كل طفل وآخر بضعة أشهر، وكأنه في حالة سباق مع آخرين على من يخلف أكثر عدداً ، وكأن هؤلاء يسابقون على أن تكون اليمن أكبر عدداً من السكان في المنطقة. وأكبر عدداً من الجهلة في المنطقة، وأكبر عدداً من العاطلين في المنطقة، وفي الأخير فمن الطبيعي سيكون عندنا أكبر عدداً من الشحاتين، وهذه نتيجة طبيعية مهما تحذلق خبراء المجتمع لدينا في دراسة الظاهرة. وبعد كل ذلك يفكر هذا الذماري في أن يكون ابنه الأكبر بالقرب منه، يساعده في زحزحة الصناديق وكراتين البضائع للتجار . ولديه الاستعداد النفسي والمادي لشراء تأشيرة عمل رسمية لابنه وأخيه ليكونوا بالقرب منه، أي تفكير هذا ، أي شعب هذا الذي نحن منه وهو منا.! تذكرت الصين في هذه المرة وتذكرت كيف سنت الحكومة الصينية قانوناً تلزم المواطن الصيني ألا يكون لديه أكثر من طفل واحد، وإلا تعرض للغرامة ، والتي تكلفه أن يدفع مبالغ كبيرة تتجاوز دخله لسنوات ويتعرض لعقوبات أخرى، فهل يسن مثل هؤلاء في بلادنا قانوناً ولو حتى في أذهانهم !؟ ليست الصورة محصورة في شبوةوذمار ومأرب فقط، بل حتى نحن في ( حضرموت) ، والتي يفاخر كثير منا ومن آبائنا ومن الآخرين أن أهل حضرموت هم أهل علم وثقافة، وهم مصيبون في ذلك، لكن الشباب وجيل الملتحقين في المدارس هذه الأيام أراهم يخلخلون هذه المعادلة ويقلبونها ، والغريب أنهم يتمنطقون بتلك العبارة ، ناسين أنها لا تنطبق عليهم. فهم جيل خارج نطاق الخدمة في هذا الزمن، ولذا لم نعد ( في تصوري ) نجزم أننا خارج عن هذه الظاهرة ، والتي انتقلت من مرحلة ظاهرة إلى مشكلة اجتماعية ، والتي أصبحت تعم الكثير من مناطق اليمن دون مبالغة أو تحيز مناطقي. ولن تجهد نفسك فستجد جيل الخارجين (وليس الخريجين ) من المدارس يزداد يوماً بعد يوم. رغم تزايد عدد المدارس والمعاهد والجامعات أضعافاً مضاعفة ، في كل مناطق اليمن، وتغيير نوعية التعليم والحوافز إلا أن هناك عقليات من الآباء والشباب جامدة كالصخر أشبه بالتماثيل الضخمة الموجودة في جبال أفغانستان ، والتي قامت طالبان بتحطيمها بل إن التماثيل أكثر ليونة منهم ، حيث تتأثر وتتغير نتيجة عوامل الزمن والتعرية. لذلك فإنك ستجد هؤلاء الشباب وقد بلغوا العشرين سنة تزيد أو تنقص. وقد تركوا مقاعد الدراسة منذ سنوات. يتسكعون في المدن وفي الشوارع بل ستجدهم أمامك في كل أسواق جدةوالرياض ومدن أخرى، وعند أبواب المساجد لبيع أي شيء كان وبشكل قانوني وغير قانوني. تلك صورة أخرى تؤلم لمن يشاهد ذلك، وكأن الزمن قد حكم على هؤلاء بهذا الحكم وليس أمامه خيار غير ذلك إطلاقاً. والحقيقة أنني أميل إلى رأي أنهم هم الذين حكموا على أنفسهم بهذا الحكم القاسي ، والذي يتجرعون مرارة عذابه كل يوم من حياتهم . وإنني أتخيلهم يؤنبون ضمائرهم وهم يشاهدون أقرانهم في العمر من أبناء المغتربين ذاهبين إلى المدارس والكليات للتحصيل العلمي، فقد تغيرت الحياة في هذا الزمن. ألم يكن من الأفضل أن يتعلموا مهنة أو حرفة، ويكملوا مرحلة من التعلم تسندهم في المستقبل وتجعلهم في وضع أفضل مما هم فيه سواء داخل اليمن أم خارجه ! هل يعرف هؤلاء أن موقفهم في المهجر بهذه الحال تجعل الغير يضع شروطه عليهم بدلاً أن يضعوا هم الشروط. وأجد نفسي في حيرة من أمري، فإذا وجهت اللوم على الآباء لانتشار تلك الظاهرة فسيوقفني أحد الخريجين الجامعيين والذي عاش يتيماً وهو صغير وأكمل دراسته الجامعية، بل إن بعضهم قد تبوأ مركزاً في الدولة يحسده عليه الآخرون. وإن عرّجت على أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرة هو المتسبب في هذه الظاهرة فسأقف أمام مئات الأسر الفقيرة التي أبناؤها من المتفوقين ، لذلك فأنا هنا لا ألوم هذه الدولة أو تلك الدولة، ولكنني ألوم المجتمع بكامله لأن ثقافته هي تلك المحصورة في هذا الاتجاه. وفي هذه السياق لا بد أن أعرّج أيضاً على الأشقاء الفلسطينيين، لعل البعض يفهم المقارنة ، فهم لا يملكون هوية يعترف بها العالم، ولا يملكون جوازات يتنقلون بها، ولا يملكون كيان دولة يفاخرون بها. ولا يملكون أرضاً مستقلة، ولا يملكون مالاً مثلما يملكه فقراء اليمن، ولكنهم يملكون إرادة قوية في التعلم والطموح. ولو تتبعت حياة بعض الأسر الفلسطينية خارج وداخل فلسطين ستجد حرصهم وقتالهم على التعليم كحرصهم وقتالهم من أجل البقاء، تلك الصورة للأشقاء الفلسطينيين يفترض أن تكون حافزاً قوياً لجيل الشباب على التعلم رغم الفارق الكبير بين ظروفهم وظروف أبنائنا. هذا الشعب يستحق الوقوف له - بعد الله سبحانه وتعالى - احتراماً وتقديراً لهذا التفكير الذي يحمله كل فلسطيني في ذهنه وفي عقله لأهمية التعليم. ليست هذه كلمات تهنئة بمناسبة قيام الثورة الفلسطينية في يناير ، ولكنها أتت بالمصادفة ، وهي بالطبع مصادفة تستحق التذكير.