سأعمد إلى اختيار قصة “ انطون تشيخوف” الطويلة بعنوان “ عنبر رقم 6 “ للإشارة لفضاء آخر في قراءة التاريخ، وهذه المرة تكون روسيا القيصرية نموذجاً. في تلك المرحلة لتي ترافقت فيها الارستقراطية الملكية مع البيوتات الفنية والتجارية الراقية، ومع أحوال مجتمعية طبقية مناقضة لها تماماً، مما يمكن أن نراه الآن في عديد البلدان العربية ذات العمق الديمغرافي الكبير، فالمفارقات والإحباط والأسئلة الفلسفية والوجودية المحيرة تركزت في هذه القصة حتى ترينا نموذجاً لبطل يمكن أن نرى نظائر له في العالم العربي، فالقانون أداة قمع بيد ممثلي السلطة، والتهمة جاهزة في كل لحظة، ومجرد التفكير الحر والبحث المعرفي قد يؤدي إلى الاعتقال والسجن . نزيل العنبر رقم 6 في مستشفى المجانين يصل إلى تلك المحطة لأنه يتساءل ويتفلسف مُحاولاً استسبار حقائق الأرض الفاجعة، لكن الأغرب من ذلك أن الطبيب المشرف على علاجه يقع في ذات المصيدة، فكأن تشيخوف يحاكم ذلك المجتمع ويفضح الأوضاع المزرية مركزاً بؤرة اشاراته على نزيلين في مستشفي المجانين لا ذنب لهما سوى أنهما انتميا لعالم الأسئلة المفتوحة، ولم يقتنعا بالإجابات الجاهزة . في هذه القصة الاسثناء استقراء للتاريخ من خلال سير ذاتية، وبلغة أدبية رفيعة تمسك بأهداب الضرورات الفنية، وتضع القارئ أمام “ كوموتراجيا “ الحياة ، وبتعرية كاسحة لأحوال روسيا القيصرية . نزيل العنبر رقم 6 يتواجد الآن بين ظهرانينا، والحال التشيخوفية تنتمي للزمن العربي بامتياز مؤكد، والمفارقة التي أشار اليها القاص كبيرة الشبه بما لدينا من ملاحم خرائبية كالتي نراها في أربع أرجاء عالم العرب الموسوم بواقع يتجاوز في فداحاته اللاواقع. استقراء أدب تشيخوف القصصي والمسرحي يستحق توقفاً استثنائياً في الأحوال الراهنة، خاصة إذا عرفنا أن تلك المقدمات أوصلت إلى الثورة البلشفية وكامل استتباعاتها الباهظة، ابتداءً من قتل الفنانين وإعدام القياصرة، وحتى الضنى الكبير بحثاً عن طوبى لجنان جديدة سرعان ما تحوّلت إلى «سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء» لكن الأكثر فداحة أن رأسمالية الحرب الباردة التي كانت مُمسوكة بتوازن الرعب سرعان ما كشفت عن أكثر وجوهها قُبحاً ووحشية بمجرد انهيار النموذج الاشتراكي العالمي مما ندفع ثمنه جميعاً إلى يومنا هذا .