تماماً كما فعل « انطون تشيخوف » قبل حين من الدهر هاهو الروائي الأرجنتيني « جوزيه ساراماجو» يكرر ذات الموضوع ويستعيد ذكرى موتاه ممن تحولوا إلى ملفات في دواليب مصلحة الأحوال الشخصية .. فإذا كان انطون تشيخوف سخر من حال الأحياء العقلاء في قصته الطويلة « عنبر رقم6 » فإن ساراماجو اعتلى بموتاه وجعلهم كالأحياء ! في «عنبر رقم 6 » نقرأ عن حال المفكر الفيلسوف « ايفان» الذي وصلت قناعاته المتطيرة إلى حد افتراض إنه يمكن أن يتهم بجريمة قتل. ربما لتشابه اسمه مع أحد الأسماء المطاردة من قبل البوليس .. وربما لأسباب قانونية مُلتبسة، كثيراً ما تحصل في عوالمنا حيث يتم زج الأبرياء في السجون وتؤخذ منهم الاعترافات قسراً وتعذيباً حتى يعترفوا بما لم يفعلوه لأنهم يفضلون راحة الموت على العذابات التي يلاقونها في تلك السجون . استتباعاً كان لابد لايفان أن يصل إلى العنبر السادس في مستشفى المجانين لأنه قام بجريمة تجريد الحقائق من أوراق السلوفان المزيفة، واكتشف في ذاته كيف يتم تعطيل القوانين أو تكييفها على مقاسات السلطة الغاشمة . جوزيه ساراماجو ذهب إلى ذات البُعد حينما كتب روايته بعنوان « كل الأسماء » ، وقد جاءت فكرة كتابة الرواية إثر اكتشافه حقيقة طريفة وتراجيدية في آن واحد ..فأخوه الذي مات منذ عقود من الزمن لم يكن اسمه مكتوباً في سجل الأموات بل في سجل الأحياء ! وبالتالي فان أية وثيقة عائلية ثبوتية لصالح أهل « الميت حقيقةً والحي وثائقياً» تتطلب تصحيح هذا الوضع من خلال إعادة إحياء ميتهم وثائقياً!!، ثم تسجيله بوصفه قد مات الآن !! .. هكذا حلت الأوراق محل الحقيقة، وهكذا بدت غرائبية الحياة التي يمكن منحها أو منعها بموجب ورقة إجرائية محفوظة في سجل الأحوال المدنية . ذهب ساراماجو إلى مصلحة سجل الموتى والمواليد الجدد ودرس الوضع هناك فاكتشف أن حظوظ الموتى في الأرشيف يتكابر ويتعملق أكثر من حظوظ المواليد الجدد ممن تخصص لهم العتبات الأولى في أرشيف المصلحة باعتبار أنهم سيلتحقون يوماً ما بالموتى، وسينعمون بذات المساحات الواسعة والدهاليز الرطبة لسجلات أسلافهم الميتين!.. كما رأى أن تلك الأراشيف الغرائبية وموظفيها المُتقادمين أصبحوا يعيشون زمناً آخر يمكن تسميته بزمن « الموتى / الأحياء» . كل الأسماء مسجلة هناك .. وكل الموتى منذ قرون يتوفّرون على ملفات تغيب في أنفاق المصلحة ذات الأروقة المُعتمة، وتتحدث عن ذاتها بوصفها حياة موثقة .. وكل العالم الخارجي الذي كان يدب قبل حين، أو القادم من أرحام الأمهات يخصص لهم مكان أثير في تلك الأراشيف . يضعنا ساراماجو أمام حالة عبثية . بل حقيقة باردة كثيراً ما لا نراها نحن الأحياء .. الأموات عما قريب .. تماماً كما لا يسعنا أن نرى موتانا الذين نشاهد صورهم الفوتوغرافية وتسجيلاتهم الصوتية والسينمائية.