قضت المستشرقة الرومانية المعروفة البروفيسور “ ناديا انجيليسكو” خمسين عاماً من العمل في الحياة الأكاديمية وتعميم العربية عبر جامعة بوخارست والمحافل الاستشراقية الاوروبية، كما تولّت رئاسة مركز الدراسات العربية في ذات الجامعة منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا، وكان قد صدر لها من دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة في عام 1997م كتاب باللغة العربية بعنوان “ الاستشراق “، وقد تناول الكتاب المفهوم السائد حول الاستشراق الأوروبي، وكيف أنه يصدر عن إطلاق أحكام قيمة مُسبقة، والشاهد أن بعض المستشرقين الأوروبيين لا علاقة لهم أساساً بدوائر صنع ؛القرار السياسي، وليسوا أيديولوجيين عقائديين صادرين عن منطق المركزية الاوروبية؛ولهذا يصعب وضع كل الاستشراق الأوروبي في خانة واحدة . في خواتم القرن المُنصرم وبالترافق مع انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي الدولي، وعندما بدأ الغرب السياسي يبحث عن عدو جديد مُمثّلاً بالإسلام أصدرت البروفيسورة ناديا انجيليسكو كتاباً تعريفياً عن الاسلام بعنوان “ مدخل إلى الاسلام “ وفيه تناولت أبرز القيم الاجتماعية والسلوكية التي نجدها في الدين الحنيف، كما شرحت في ذات الكتاب الأبعاد التوازنية للعبادات الاسلامية ابتداء من الصلاة وحتى الحج، وأبرزت القيم العليا لمفهوم الزكاة، كما قامت بردود منطقية عقلانية على جُملة التهم التي توجه للاسلام، وبالذات تلك المتعلقة بالمرأة، ولقد بدا الإصدار في حينه بمثابة رفض مبكر للمنطق الأيديولوجي الجديد الباحث عن صدام الديانات والحضارات، بدلاً عن البحث عن المُشتركات، وكانت ناديا انجليسكو في تلك المُقاربة بمثابة الرائية التي تستشرف القادم المُداهم، وتستبق بلايا ما بعد أحداث سبتمبر المشؤومة بنصيحة لصالح البشرية . لا يمكن الإحاطة بالجهود الكبيرة التي بذلتها ناديا أنجيليسكو دفاعاً عن العرب والمسلمين وانصافاً لهم، وبالتوازي لا يمكن حصر إسهاماتها النوعية في الاستشراق الأوروبي وتعميم العربية، لكنني هنا أتوقف أيضاً أمام نجاحها الاجتماعي المشهود كزوجة وأُم وربة بيت، فقد ظلت العلاقة الزوجية التي تربطها بزوجها الاكاديمي مثال يُشار له بالبنان في الأوساط الأكاديمية والفكرية الرومانية، كما ربّت ابنتيها على الصدق والجدية، وصولاً إلى نيل أعلى المراتب والشهادات العلمية، وقد تشرّفتُ شخصياً قبل سنين طويلة بزيارتها وزوجها في شقتهما المتواضعة بمدينة بوخارست، فلاحظت في مكتبتها درجة الاحتضان الحميم للدراسات والأبحاث والكتب حتى انها تستخرج الكتاب المطلوب في لحظة واحدة وكأنها تحفظ عن ظهر قلب ارتصاف آلاف العناوين في رفوف لا متناهية التنوع ، وبدت لي البروفيسور ناديا في حالة انشغال لا يتوقف وهي التي تجمع بين المحاضرات والإشراف العلمي على رسائل الدكتوراه ورئاسة مركز الدراسات العربية بالجامعة، والمشاركة في كثير من الملتقيات والندوات المكرسة للاستشراق والقضايا الفكرية الإنسانية . ناديا انجيليسكو نموذج ساطع لنساء الذاكرة التي لا تُمحى، وقلم سيّال في زمن العاديات والأنواء، وصوت مُنصف نحتاج إليه اليوم أكثرمن أي وقت مضى، لسنا نحن العرب المسلمين فقط، بل أيضاً العالم المجنون بالحروب والنزاعات العدمية .