لا يمكن لصاحب قلم وقد صار قلمه لسانه الذي ينطق به إلا أن يكتب مثلما يتحدث ولن يتحدث بخلاف قناعاته إن كان سليم النفس والأخلاق، لايمكنه أن يكتب خلاف الحقائق التي يراها ويسمعها بوعي.. ومن كان لسانه الذي في فمه لا يكذب فإن لسانه الذي في يده لن يكذب، وأحسب أن القلم الصادق وقد صار لساناً لصاحبه أكثر حرية وأكثر دقة ومصداقية وشجاعة وأكثر فصاحة.. ذلك أن لسان الفم قد تخونه الكلمات أحياناً وقد يكون للخجل أو الخوف والرهبة حضور وقتها وقد تكون المجاملة حاضرة في سياق القول لتحكم المفردات، تضيف وتحذف وتستبدل الجمل. لكن القلم «لسان اليد» ينطق بعيداً عن كثير من تلك المؤثرات فيأتي الكلام أكثر صدقاً وشجاعة، وعندما ينطق بصدق وشجاعة فليفرح من يفرح به وليحزن من يحزنه الصدق أو لينفجر إن شاء أو يموت كمداًَ. يقال بأن أصحاب الأقلام هم أقل الناس أصحاباً وأكثرهم عداوات وخلافات واختلافات مع الغير، ولا ضير في هذا إن كانت الأقلام تنطق بالصدق وتتوخى الحقائق، لا أظن أن هناك من هو أكثر أهمية من الحقائق والصدق، ولا من هو أقرب منهما للقيم والأخلاق السامية حتى الأقارب والمقربين لا ينبغي أن يكونوا أكثر أهمية من الصدق والحق. الكتابة رسالة واضحة المعالم والأهداف والطريق، ومن غير الأخلاق أن يجري تغيير معالمها وطريقها أو تمريرها في منعطفات ومنحنيات تفادياً أو هروباً من واقف في الطريق سوف ينكشف أمره لو مرت في الخط المستقيم وكذلك الحال حين يتعمد من يتعمد تحويل مسارها لتصطدم بهذا أو بذاك لمآرب خاصة. وفي مشهد آخر هناك من يحاول الاصطدام بالكتابة أو الكاتب وقلمه حين يعمد لإسقاط دلالات ما يكتب على نفسه أو على هدفٍ من صنعه وافتراضه فيصدق فيه القول «كاد المريب أن يقول خذوني» أو ما يشبه هذا القول في المعنى. غير مرة جاءت ردات أفعال على كتابات لم تكن موجهة نحو شخص بذاته وهي تتناول ظواهر أو مشكلات عامة ففهمها من فهمها على أنها موجهة نحوه فاحتج وغضب وأرسل تهديده ووعيده نحو القلم وصاحبه، فكان المريب الذي كشف عن نفسه وقال خذوني، ولا فرق إن كان قد اعترض طريق الكتابة أو أن الكتابة قد وجدته في طريقها فأظهرت ما كان يخفي على الناس للناس، وهكذا يفعل المريبون ويفعل المسيئون دوماً. ومن حسنات القلم الصادق حين ينطق بصدقه أن يكشف المتسترين خلف أقنعة زائفة، الذين يدعون طهراً ونقاءً وإخلاصاً ووطنية ويدعون.. ويدعون، فتتهاوى كل ادعاءاتهم وما يفترون أمام جملة واحدة أو أقل من ذلك، فالزيف أساسه واهٍ وبنيانه متصدع. المريبون والمسيئون تقض مضاجعهم الحقيقة ولو لم تسمهم، وتفضحهم ردات أفعالهم، ويسعد الحرف حين يعلم أنه قد لامس مواضع السوء وسلط عليها من نوره فكشفها للناس جميعاً ليحذروها، ويكون الحرف أسعد حين يكتشف مواضع الخير ويعلنها أو يدل عليها وإليها من أجل محاصرة الشر الذي يتهدد الجميع ولا يفرق بين قريب وبعيد وبين صديق وعدو، وهنا تكمن رسالة الكتابة حين لا تعترف بالعواطف التي تلبس الشر أثواب الخير والقرابة التي تكتم الحق نفاقاً وظلماً..!!.