تحول القمح إلى ورقة سياسية مهمة بيد المنتجين والمهيمنين أو المتحكمين بإنتاجه وتسويقه عالمياً، إلى جانب كونه ورقة اقتصادية بالغة الأهمية في كل الأحوال، ويجري اللعب بالورقتين معاً أو على انفراد حسب ما تقتضيه مصالح من بأيديهم هذه الأوراق، غير أن أخطر مافي لغة الأوراق في عالم القمح هو هيمنة السياسة على القمح بوصفه أهم سلعة وبالتالي أهم وسيلة ضغط لإخضاع الشعوب وإذلالها. في لغة الحصار تبدأ الخطورة وتتعاظم إلى أن تتحول إلى كارثة عندما يدخل القمح قائمة السلع الممنوع وصولها للمحاصرين، وبعد هذه العملية يسهل فرض المطالب وتحقيق الأهداف وإخضاع الناس المراد إخضاعهم بصورة أو بأخرى تحت وطأة الحصار والتجويع حيث لا مجال للرفض. في مقدمة أبشع أنواع الحصار يأتي حصار العراق الذي استمر من عام 1990م إلى عام 2003م لينتهي بكارثة كبرى هي احتلال العراق أرضاً وإنساناً بعد مقدمة طويلة من الحصار الذي أسفر خلال فترة تنفيذه عن أسوأ برنامج احتيال وسرقة ونهب دولي هو برنامج «النفط مقابل الغذاء» وقد جاء القمح في مقدمة الغذاء، وتحت مظلة هذا البرنامج السيىء الصيت جرى نهب عائدات النفط المباع ونهب النفط ذاته ليتضح الأمر بعد ذلك على هيئة فضائح ظهر ما ظهر منها وما خفي كان أعظم وفضائح مابعد احتلال العراق أعظم. في برنامج «النفط مقابل الغذاء» استخدمت ورقة السياسة التي لا تعرف الأخلاق ولا تحترم القوانين الدولية التي يجري الترويج لها وتسويقها على الشعوب العربية والإسلامية وحدث ماحدث في زمن هذا البرنامج وما بعده، وعندما تقف مفردة «مقابل» بين النفط والغذاء أو توضع هناك قصداً تصبح المقايضة حقيرة ودنيئة إلى أبعد مدى، وقد أصبح ميزان القوى بين طرفي المعادلة «المقايضة» غير متكافئ ولا خيار أمام الطرف الأضعف غير القبول بالشروط بحكم الأمر الواقع والنتيجة هي تدمير هذا الطرف وإخضاعه بقوة السلاح أو بشدة الجوع والتجويع، ويتكرر الحال هذا في غزة حيث الحصار على أشده لانتزاع التنازلات. مايحدث اليوم في العالم في ظل تصاعد أسعار النفط هو استخدام ورقة السياسة البشعة لمعالجة هذه المشكلة ولتحقيق مآرب سياسية قبل كل شيء من خلال استخدام ورقة القمح مقابل ورقة النفط وللأسف جاءت ورقة القمح أقوى وأخطر من ورقة النفط لأن الذين بأيديهم ورقة النفط هم الطرف الأضعف في معادلة «النفط مقابل القمح» وهي معادلة أصبحت حقيقة واقعة يتم التعامل بها وربما أن البعض لم يتنبه لهذا الواقع بعد، لكن النتيجة في مجملها هي أن عائدات النفط سوف تذهب في معظمها إن لم نقل جميعها لشراء القمح ضمن معادلة يفرض الأقوياء فيها سياستهم وشروطهم، وتنتهي كل اهتمامات الضعفاء عند مسألة توفير القمح الذي هو الغذاء لشعوبهم ولو دفعوا كل عائدات النفط لهذا الغرض تفادياً لثورات شعبية إن غاب القمح أو عز الطلب في الحصول عليه، وتفادياً لقلاقل وإشكاليات كثيرة ومعقدة سببها عدم القدرة في الحصول على لقمة العيش «القمح» ولهذا نرى أن معظم بل كل مشكلات الدول النفطية بمختلف مستويات إنتاجها للنفط غير قادرة على حل مشكلة أسعار القمح ونرى أن كل اهتمامات حكوماتها وكل هموم شعوبها تنحصر في دائرة توفير القمح والحصول عليه بأسعار مناسبة، ولن يتحقق لها ذلك طالما يجري تنفيذ سياسة النفط مقابل القمح التي رسمتها«دول حلف القمح» وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة وحددت أسعاره وألزمت كل الدول المنتجة للقمح باتباع هذه السياسة وهي تهدف من جملة ماتهدف إليه إلى مصادرة أهمية النفط كسلاح تتحكم به الدول النفطية «العربية والاسلامية تحديداً» وما قيمة النفط في تلك الدول إذا كانت لاتنتج شيئاً من القمح أو أن انتاجها منه لايسد نصف احتياجها. ومعروف أن الدول العربية لاتحسب بأي حال من الدول المنتجة للقمح ولهذا فهي تستورد كل احتياجاتها من القمح من دول أخرى وهنا تكمن المشكلة بل الكارثة حين لايكفي ماتنتجه من نفط لتوفير ماتحتاجه من قمح وقد صار القمح لابديل له ولاغنى عنه بكل تأكيد. استطيع القول على ضوء مايجري في عالم النفط والقمح، وعلى مايحدث في العالم من صراعات وحروب أن الدول المنتجة للقمح قد استدرجت الدول النفطية إلى مربع المقايضة غير المتكافئة لتذهب عائدات النفط«إن عادت عوائده» لشراء القمح الذي أصبح شغل الناس الشاغل في دول النفط واللانفط، على أن الدول التي لانفط فيها تقدم تنازلات أخرى لضمان الحصول على القمح لتصبح كل تلك الدول أسيرة القمح، وربما تتفاقم مشكلتها مستقبلاً مع زيادة الاحتياج للقمح مالم تفكر بحلول لهذه المعضلة مع زيادة الطلب..!!