اليمني رحالة، جوال بطبعه ، ربما منذ سيل العرم أو انهدام سد مارب بسبب الفأر الأسطورة وربما بسبب دعائهم الشهير : «ربنا باعد بين أسفارنا». والمعروف أن كثيراً من العرب يعودون لأصول يمنية بسبب هجرة الإنسان اليمني في اصقاع الجزيرة العربية وبلاد الشام والرافدين وبلاد ماوراء البحار.. ويظهر أن هذه العادة لازمت اليمن إلى اليوم وورّثها الأجداد للأحفاد ، فحيثما اتيحت فرصة للهجرة وجدت اليمني أول المهاجرين. وإن كان للهجرة والاغتراب فوائد كثيرة للوطن والإنسان فإنها لاتخلو من أضرار وخسائر جمة لهما معاً ، وبعيداً عن المادة ومتطلباتها هناك الروح التي تٌُهمل ويُبخس حقها في زحمة البحث عن لقمة العيش. الغربة كربة كما يقال ، والواقع أنها كربات! فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون البعد عن الأحبة لمن كان له قلب يشبه طعم الموت لكن بعض المغتربين لا قلب لهم.. نعم الضرورات تبيح المحظورات ، لكن الكماليات وطلب الرفاهية لاتبيح إيذاء أقرب الناس.. أن تعيش الزوجة والأبناء سنوات عجاف يتجرعون فيها جفافاً روحياً وظمأً روحياً فلا ضمة دافئة من زوج ولا لمسة حانية من أب كل ما هنالك أموال وقطائف وخمائص! «تعس عبد الدينار والدرهم تعس عبدالقطيفة تعس عبدالخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» ، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم محذراً. أن تستمر الغربة لسنوات طوال فهذا تعذيب لأرواح بريئة قد لايشعر به المغترب ، يترك فلذات كبده بعمر الزهور ويعود وهم في طور الرجولة ، والأنوثة ، يكسب المال الكثير مسبباً الألم الكثير أيضاً ، والكبير ، وقد يعيش بقية أيامه بعد عودته النهائية مغترباً في اسرته وأولاده ، لم يعرفهم صغاراً فلم يأنسوا إليه كباراً. هل من الممكن الموازنة بين حياة الاغتراب وطلب الرزق في بلاد الله وبين تلبية اشواق النفس وظمأ الروح .. الأمر يحتاج أن يتخلى المغترب عن أنانيته ، ويعمل عاطفته قليلاً.. فمدة معينة في السنة يقضيها بين أهله وأحبائه ستحقق توازناً نفسياً ورضا له ولأسرته. أعرف من اغترب خمسة عشر عاماً عن وطنه لم ير خلالها زوجته ولم يقبّل أحد أولاده كل ماهنالك طعام ولباس وإيواء ترى.. كيف سيعود يوم يعود؟! ماذا سيقول لأطفاله الذين صاروا رجالاً ونساءً؟! «أحدهم مات ولم تكتحل عينه برؤية والده» كيف سيبرر الأمر لزوجته التي ودعها شابة ريانة وترك للزمان أن يلتهم من روحها وعمرها دون أن تسمع كلمة إطراء ومديح أو همسة حب وحنان من زوج ما أقساه! إنها لاتملك إلا أن تنوح نوح الطيور الذبيحة أو أن تذوب بصمت حزين.