قبل أكثر من سبعة عشر عاماً لم تكن الديمقراطية ثقافة رائجة في العالم العربي، ولم تكن التجربة الحديثة في المغرب أو الأردن أو لبنان أنموذجاً واضحاً، ومع هذا قررت اليمن التحول إلى النظام الديمقراطي التعددي.. فهل كل الأمر مغامرة !؟ هناك حقيقة مهمة تغفلها الأقلام كلما خاضت في الديمقراطية اليمنية، وهي أن بداية التحول الديمقراطي في اليمن لم يكن ولادة قرينة لإعادة تحقيق الوحدة، بل يعود إلى بداية عهد الرئيس صالح، بالذات بتأسيس المؤتمر الشعبي العام في أغسطس 1982م.. ويمكن القول إن تجربة اليمن الديمقراطية مرّت بمرحلتين : الأولى «التعددية السياسية» التي مثلتها تجربة المؤتمر قبل الوحدة، والثانية «التعددية الحزبية» التي أقرها دستور دولة الوحدة. ومن هذا المنطلق يجب الاعتراف بأن الوحدة والديمقراطية يمثلان متلازمتين لا يمكن الفصل بينهما، فلولا الوحدة لما انتقلت اليمن بتلك السرعة من التعددية السياسية إلى التعددية الحزبية.. ولولا الصيغة الديمقراطية لما اتفق الشطران على إعادة التوحد والاندماج، لأن الديمقراطية كانت الآلية الوحيدة أو الصيغة الفريدة لنظام حكم ما بعد إعلان الوحدة. إن هذه الحقيقة تؤكد ان خيار الديمقراطية بالنسبة لليمن لم يكن مغامرة رئاسية، لأنه في نفس الوقت كان خياراً للوحدة الاندماجية بين شطرين طالما انهكتهما الصراعات والفتن، والموارد المجزأة، والقلق الدائم من بعضهما البعض.. ناهيكم عن كون التشطير واحداً من أهم الأسباب التي كانت تدفع قوى إقليمية ودولية للتدخل في شئون اليمن وخلط أوراق القوى الوطنية المختلفة. ولا شك أن اليمن نظرت إلى الديمقراطية كأحد الحلول لمشاكلها التنموية، وتعاطت مع ممارساتها المختلفة على أنها رهان وحيد لترسيخ الأمن والاستقرار الذي هو مرتكز أساسي لأي بناء تنموي للبلد، باعتبار ان غياب الاستقرار في الماضي كان عاملاً لطرد الاستثمارات الخارجية، وباباً لاستنفاد الموارد الاقتصادية المحلية، واستهلاك القدرات البشرية في حروب غير مبررة، وحراسات كثيفة على امتداد الخط التشطيري، وبالتالي انعكس كل ذلك سلباً على النشاط الاقتصادي الداخلي للسكان الذين تعطلت مصالحهم بسبب التوترات، فكان أن ازدادوا فقراً فوق فقرهم القديم. إن الديمقراطية، وبفضل ما تخلق من روح تنافسية بين القوى الوطنية يفترض أن تساعد على تحسين مختلف الأوضاع اليمنية ابتداءً من الوعي الثقافي وانتهاءً بالصناعات الانتاجية، وأسس السيادة الوطنية للدولة .. إلا أنها حين تتعثر في تحقيق أي من ذلك فإن الأمر لن يعني سوى أن هناك نكوصاً في الوعي البشري بمفاهيم الديمقراطية وغاياتها. فعندما يتحدث البعض عن الديمقراطية من وسط شارع كل من فيه يحمل حجارة أو عصا وينهال تكسيراً وعدواناً بكل ماحوله من ممتلكات عامة وخاصة، فإن من المستحيل أن يكون هذا المتحدث يعلم شيئاً عن الديمقراطية، لأنه لو كان يعلم أبسط المفاهيم لأدرك أن الديمقراطية ما وجدت إلا لتفادي اللجوء إلى هذه الخيارات العنيفة وتفادي الانقلابات الدموية والاغتيالات من أجل كرسي الحكم.. كما ان الديمقراطية جاءت إلى اليمن لكي تسقط أوامر «الإمام» لأبناء محافظة ما لنهب المحافظة الأخرى.. ولكي لا تعاود عصابات التقطع الفتك بالآمنين ونهب أرزاقهم طبقاً لقانون الغاب.