هل هناك سياسة في الأخلاق، وهل هناك أخلاق للسياسة، وهل هناك سياسة بلا أخلاق، وهل هناك أخلاق بلا سياسة؟.. أسئلة كثيرة يمكن أن تُطرح، وإجابات كثيرة يُمكن أن تُقال أو تُكتب، فيها ما هو نابع من حرص على توازن السياسة والأخلاق، وفيها ما هو ناتج عن رغبة مسبقة في توظيف السياسة المبدئية لصالح الأخلاق، وفيها ما هو وليد مصلحة في توظيف الأخلاق لصالح السياسة الانتهازية. قد تكون الأسئلة وليدة قناعات أيديولوجية مشبعة بالمبادئ والمثل والقيم الثقافية والروحية ذات الصلة بالإيمان والأمانة، وقد تكون الأسئلة وليدة فضول انتهازي مشبع بكل ما هو ذميم وقبيح من الأنانية المنافعية المجردة من الإيمان والأمانة التي لا تعرف سوى المصلحة المادية الذاتية الأنانية المجردة من القيم الأخلاقية والمبادئ والمثل الأيديولوجية والدينية. وكما تكون الأسئلة تكون الإجابات سلباً وإيجاباً؛ لأن الحضارة سؤال في البداية وإجابة في النهاية، لا بل قل سلسلة متصلة ومنفصلة من الأسئلة والإجابات الباحثة عن الحقيقة، والكفاية غايتها الانتصار لما في النفوس البشرية من قناعات سياسية وقيم روحية وأخلاقية سالبة وموجبة؛ إذا لم تكن وليدة حرص على الانتصار للفضيلة المتموضعة في الخير تكون غايتها الانتصار للرذيلة المتموضعة في الشر. الأولى نابعة من حرص على البناء، والثانية نابعة من حرص على الهدم، مع ما يوجد من مفارقات رهيبة بين الذين يوظفون السياسة من أجل الانتصار لقيم الخير، وبين من يوظفون السياسة من أجل الانتصار لقيم الشر، وبين الذين يعشقون السياسة من أجل البناء، وبين الذين يعشقون السياسة من أجل الهدم، توجب الاحتكام للفضيلة أو الاحتكام للرذيلة عن طريق التحكم وعدم التحكم المسبق في الرغبات اللا إرادية الفوضوية القابلة للهيجان إلى درجة السلوك في الانفلات السلوكي وغياب التنظيم والكبح المهذب للرغبات والنزوات والنزعات الشريرة ذات الطبيعة العدوانية الهادفة تدمير الخير وفق المخرجات السياسية؛ تقدم الشر بثوب الخير، وتقدم الأباطيل بصورة الحق، وتقدم الظلم بهيئة العدل إلى غير ذلك من المناورات السياسية والأخلاقية الدالة على غياب الضمير وتغييب ما يجب أن يرافقه من الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخر الذي أجبرته ظروفه اللا إرادية على تلقّي الضربات المؤلمة عن ضعف إلى حدود من المعاناة التي تفوق سعادة المخمورين بسكرة اللذة المجنونة التي تساويها في القوة وتعاكسها في الاتجاه إلى حدود غير قابلة للاحتمال والصبر على الباطل. تنقلب فيها معاناة الإحساس بالمهانة والظلم إلى كراهية، والكراهية إلى حقد، والحقد إلى غدر، والغدر إلى قتل يكشف عن ظاهره من اللذة والسعادة يتناقض مع ما يخفيه من باطن مؤلم لدرجة قد يتحول فجأة إلى جحيم يكتوي بناره وسياسته اللا أخلاقية الظالم والمظلوم؛ الأول بجرم التمادي في فرض الظلم، والثاني بجرم الاستكانة في قبوله، المعتدي والمعتدى عليه بصورة يتضرر من سياستها اللا أخلاقية الجميع، وقد أصبحوا جنوداً في خدمة الشر على حدٍ سواء في معركة أزلية وأبدية مع الخير الواعد بالنصر يحتاجون إلى استعادة قدر معقول ومقبول من مشترك الخير الذي دمّرته سياسة الشر الانتهازية التي استهانت بالأخلاق باعتبارها العاصمة والمرادف الموضوعي المنظم للسياسة بدافع الحرص على توازن الحياة المبنية على تكافؤ وترابط الحق والواجب في تعاطي السياسة بنسب متوازية ومتوازنة مع الأخلاق وفق منظومة دستورية وقانونية منظمة للجدل. أقول ذلك وأقصد به أن الذين يعتقدون أن السياسة في أجواء الحرية المطلقة لا أخلاق لها ولا قيم ولا مبادئ يعتقدون خطأً أنهم أصحاب حقوق بلا واجبات، ولا يتركون للآخرين في غياب السياسة الأخلاقية الموجبة للمسؤولية سوى الواجبات المجردة من الحقوق على نحو يجادلون فيه للاستيلاء على الخير لأنفسهم وفرض الشر على غيرهم، عن طريق احتكار اللذة والمتعة وفرض الألم والتعاسة على الآخرين، متناسين ومتجاهلين أن الطريق إلى الخير لا تمر بوسائل من الشر مهما كانت المبررات ومهما كانت فضيلة الغايات وفق مخرجات دعائية ذات باطن يتنافى مع الظاهر، وذات أقوال تتنافى مع الأفعال لا مصداقية لها، ومن لا مصداقية له لا موضوعية له، ومن لا موضوعية له لا ثقة به على الإطلاق مهما حاول تغطية سياسته الشريرة المبتذلة بمزايدات دعائية قادرة على دغدغة العواطف بمغالطات اتهامية ما يلبث المدقق يستدل منها على سياسة بلا أخلاق ولا يستدل منها على سياسة لها أخلاق يؤكد للمخدوعين منهم أن السياسة بلا أخلاق كالشجرة بلا ثمر وقد تكون ذات ثمرات سياسية وقاتلة لجمال الحياة والحرية والحق. يُقال السياسة بلا أخلاق لعبة قذرة لا تتفق مع السياسة الأخلاقية المحكومة بمجموعة من القيم والمبادئ والمثل القدسية النبيلة تمنع الفرد والمجتمع من الدجل والأنانية والانتهازية والتآمر والخيانة والكراهية لا تتورع في لحظة حقد ناتجة عن منفعة أو نزوة عابرة عن تدمير أفضل العلاقات وعن تقديم أفضل الناس وأشرفهم وأنبلهم قرابين لما لديها من الأطماع والأهواء الدامية والمدمرة للوحدة والحرية والحق والعدل والديمقراطية والمساواة والتقدم والرخاء المحقق لما تحلم به الشعوب من الاستقرار والسعادة والأمن والسلام الاجتماعي الدائم والمستمر. فالبعض يعتقدون بصدق أن السياسة قيم وأخلاق ومبادئ ومثل لا مجال فيها للشر الموجب للكذب والدجل والخداع والتضليل والمناورة والمتاجرة بأوضاع الناس وحقوقهم وتطلعاتهم وهمومهم ومعاناتهم اليومية من منطلق الرغبة الانتهازية في استثارتهم وشعللة ما لديهم من العواطف والانفعالات للحصول على مكاسب ذاتية غير مشروعة بغض النظر عمّا قد يترتب عليها من عواقب كارثية وخيمة على الأوطان، لأنهم يربأون بأنفسهم عن اللجوء إلى هذا النوع من السياسات الانتهازية المجردة من الأخلاق. وهؤلاء نجدهم جنوداً للخير؛ يستخدمون السياسة الأخلاقية في معركتهم الوطنية الدائمة والمستمرة مع ذلك النوع من الذين لا وطنية لهم بحكم استخدامهم المتعسف للحرية في تمرير سياساتهم اللا أخلاقية الانتهازية المجندة لخدمة الشر مهما تظاهرت بغير ذلك من مزايدات سياسية ودعائية تهدف إلى قلب الحقائق وتسويق المعكوس والمشوّه منها بزخارف لمّاعة ومسيلة للعاب الحالمين الذين يفكرون بعواطفهم المسيطرة على ما لديهم من عقول معطلة بُذل الحاجة وهوان الفقر، ويدفعونهم إلى مواقف تضيف معاناة إلى ما هو سائد من المعاناة والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الطارئة إلى ما هو كائن من مشاكل موروثة. لأن لغة السياسة الانتهازية اللا أخلاقية المثيرة للأطماع لا تحمل في أبعادها من الحلول العلمية والعملية ما يمكّن الشعوب من تحقيق طموحاتها المشروعة؛ لأنها دعوة للهدم وليست دعوة للبناء؛ دعوة للفوضى وليست دعوة للنظام وسيادة القانون؛ دعوة للخوف والقلق وليست دعوة للأمن والاستقرار؛ دعوة للصراعات والحروب الدامية، وليست دعوة للوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام الاجتماعي. لأنها في أبعادها الأزلية والأبدية امتداد لذلك الصراع الطويل بين قوى الخير وقوى الشر لا بداية له ولا نهاية إلا هناك حيث تنتهي الحياة الدنيا الجدلية بجدليتها الناقصة وتبدأ الحياة الأخرى الكاملة والثابتة والتي لا وجود فيها لحكام ومحكومين، ولا وجود فيها لسلطة ومعارضة، ولا لأغنياء قادرين على شراء الناس وفقراء مضطرين تحت ضغط الحاجة وذلها إلى بيع أنفسهم والعمل بوعي ودون وعي في نصرة الشر على الخير، وتلك هي إرادة الله مقدّر الليل والنهار، الزمان والمكان، الحياة الدنيا والآخرة.