ممالاشك فيه أن القوانين تعد عاملاً أساسياً ورئيسياً في تنظيم حياة أي مجتمع غير أنها إذا لم تكن مقرونة بآليات وإجراءات صارمة لتطبيقها تصبح بلا معنى وبلا فائدة.. ومانعانيه في بلادنا أن أغلب القوانين والقرارات التي تصدر من الجهات المعنية «الوزارات والمؤسسات وغيرها» تظل مجرد قرارات ينتهي مفعولها بإصدارها، حتى وإن طبقت بعضها فإنها تكون قصيرة النفََس؛ إذ لايستمر تطبيقها سوى أيام فقط وعلى أقصى تقدير بضعة أسابيع لتعود الأمور إلى ماكانت عليه سابقاً وكأن هذه القرارات لم تتخذ أصلاً.. صحيح أنها تكون مقرونة بآليات وإجراءات تنفيذية صارمة، لكن في الحقيقة أن هذه الآليات والإجراءات دائماً ماتكون غير فاعلة ولاتضمن تطبيقها على أرض الواقع، الخلل هنا ليس في هذه القرارات والقوانين ولافي آليات وإجراءات تنفيذها، بل في الأشخاص الذين مهمتهم تطبيقها نظراً لعدم توفر النية الصادقة والجدية لديهم في التطبيق، الأمر الذي ولد لدى الجميع عدم ثقة في أي قرارات وقوانين تصدر لأنها - وبحسب خبرتهم وتجاربهم الكثيرة في هذا الجانب - لم يتم تطبيقها على النحو الذي يحقق الهدف من اتخاذها. وبنظرة بسيطة سنجد هناك سيلاً من القرارات والقوانين تتخذها الجهات المعنية كل يوم، ولكن ماالذي يطبق منها على الواقع ؟ للأسف ليس إلا النزر اليسير ولفترة مؤقتة طالت أم قصرت، بينما الغالبية لاتجد طريقها إلى التطبيق ، والواقع مليء بالنماذج. فمثلاً قرار مجانية التعليم خاصة في الصفوف الأولى الأساسية، هذا القرار الذي يتجدد الحديث عنه مع مطلع كل عام دراسي وتكثر التصريحات حوله والتوجيهات لإدارات المدارس بالالتزام به والتهديد بمعاقبة كل من يخالفه، ورغم كل ذلك فلايعرف المواطنون من هذا القرار سوى منطوقه، أما مفعوله فلا يلمسونه على الواقع الفعلي، وفي زحمة التسجيل تضيع كل التوجيهات وتغيب كل تلك التهديدات، والمواطن هو الخاسر الوحيد الذي لايمكن أن يسجل أولاده في المدرسة دون أن يدفع الرسوم المقررة، و«ياويله» لو تحدث عن مجانية التعليم، فساعتها لن يجد مدرسة ترضى بتسجيله.. وفي مثل هذه الحالة أعتقد أن أفضل حل هو أن تقوم وزارة التربية بإنشاء مدارس جديدة تخضع لسلطاتها وتلتزم بتنفيذ قراراتها وتوجيهاتها، طالما وأن الوزارة لم تعد قادرة على إلزام المدارس الموجودة حالياً بذلك. مثال آخر على هذه القرارات غير الفاعلة «الكسيحة» القرارات الخاصة بأسعار السلع الغذائية التي لن تجد تاجراً واحداً يلتزم بما تعلن عنه وزارة الصناعة من أسعار، فتجدهم وفي تحد صريح يبيعون بالأسعار التي يريدونها «عيني عينك» ولو تجرأ أحد وطلب من التاجر أن يبيع له بالسعر المعلن من قبل الوزارة، فإنه سيجد جواباً واحداً موحداً لدى جميع التجار وهو «خلي الوزارة تبيع لك بالسعر الذي أعلنته» الأمر الذي يجبر المواطن على تجاهل هذه القرارات والشراء بالسعر والكيفية التي يريدها التاجر. ولكن لماذا هذا التحدي المتعمد من قبل التجار والتجاهل المتعمد أيضاً من قبل المستهلكين لقرارات وزارة الصناعة ؟ السبب أن الوزارة عودت التجار على عدم احترام قراراتها لأنهم لايلمسون الجدية في تطبيقها ويتعاملون معها كأنها غير موجودة أصلاً، بل إنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك حيث يصل الأمر إلى حد الاستهزاء بهذه القرارات والسخرية منها، فهم يرون أن الوزارة أعجز من أن تقوم بمحاسبتهم وإن حدث ذلك فإن لديهم أساليبهم الخاصة لتبرئة أنفسهم والتنصل من كل مايوجه إليهم من اتهامات. أما سبب تجاهل المستهلكين لهذه القرارات فينبع من ثقتهم ومن واقع التجربة بأن هذه القرارات ليست سوى مجرد شكليات وليست للتطبيق ويعرفون جيداً أن الكلمة العليا في مسألة الأسعار هي للتجار وليست لأصحاب القرار. هناك بعض القرارات تقابل بحماسة شديدة لحظة صدورها وتقترن بحرص كبير على تطبيقها من قبل الجهات المعنية، لكن هذه القرارات لاتصمد طويلاً ؛ إذ سرعان ماتصاب بالشيخوخة مع مرور الأيام حتى تموت وكأن شيئاً لم يكن، فمثلاً قرار الحملة الخاصة بتنظيم حركة مرور الدراجات النارية في مدينة تعز كان قراراً جيداً استبشر به سكان المدينة خيراً وعاشوا الأيام الأولى لتطبيقه في هدوء وسكينة ولكن ولأن «الحلو مايكملش» فهاهي الأمور قد عادت خلال الأيام الأخيرة إلى سابق عهدها وعادت الدراجات النارية تبدد سكون الحالمة وتقض مضاجع سكانها إلى حدود الثالثة فجراً. ففي كل أنحاء العالم تظل القرارات مهما بلغ بها العمر كما هي بنفس قوتها وهيبتها وإلزاميتها مالم تصدر غيرها ؛ تلغيها أو تطورها.. بينما في بلادنا نجد أن هذه القرارات تصاب بالضعف والوهن نتيجة التراخي في تطبيقها ولاتلبث أن تموت وتنتهي.. والمشكلة هنا تكمن في أن هذا التراجع والتراخي في تطبيق القرارات يضعف هيبة الجهات المعنية لدى المواطن الذي يفقد ثقته بهذه الجهات وقدرتها على لعب أي دور عملي في الواقع، ويؤمن بأن وجودها عبثاً طالما وأن قراراتها ليست سوى مجرد «حبر على ورق» وإلا لماذا تصدر قرارات أصلاً إذا لم تكن قادرة على تطبيقها?!