صناعة الثقة بين الفرد والدولة مسألة ليست بالسهلة، وقد لاتتاح لكثير من بلداننا، إلا أن بعض الانظمة تمتلك من المهارة والحنكة السياسية ما يؤهلها لكسب تلك الثقة بمبادرات لاتستغرق منها سوى بضعة أشهر. في اليمن لا تخلو السياسة من مفارقات، إذ إن في الغالبية العظمى من بلداننا العربية تتجسد ثقة الفرد على مستويات وزارية مختلفة وتضعف على المستوى القيادي الأعلى للبلاد، غير انها في اليمن قائمة بقوة مع رئيس البلاد، وتتقهقر كثيراً جداً على المستويات الوزارية ومادونها، لذلك ظل أفراد المجتمع يلجؤون للرئيس في كل قضية صغيرة كانت أم كبيرة. ربما هم قليلون جداً أولئك الذين يتساءلون : لماذا كلما اعترضتنا مشكلة توجهنا إلى رئاسة الجمهورية نناشد الأخ الرئيس بمساعدتنا على حلها !؟ ولماذا صرناحتى في بياناتنا، وشكاوانا نختزل الطريق ونفضل توجيه خطابنا للرئيس مباشرة وليس للجهة المعنية، والبعض يحمله المسؤولية شخصياً وليس أحد سواه في كل عرقلة يواجهها!! فهذه الظاهرة رغم ما تنم عليه من ثقة شعبية بالرئيس، وبالجانب الإنساني من شخصيته، أو مهاراته في ايجاد المخارج والحلول، إلا أنها في جانب آخر منها تميط النقاب عن جملة من الاشكاليات القائمة في أداء مؤسسات الدولة لمسؤولياتها.. فكثير من المواطنين يجدون في ايصال قضاياهم إلى مكتب الرئاسة عملية أسهل بكثير من إيصالها إلى مكاتب بعض الوزراء والمسؤولين الحكوميين، كما أنها مضمونة ويستحيل لأحد من مسؤولي مكتب الرئاسة ان يخبرهم بضياعها، فكل شيء يسير كما عقارب الساعة. كما ان الأمر يكشف ضعف ثقافتنا المؤسسية، وجهلنا في تحديد سلالم المرجعيات الوظيفية، من أدناها إلى أعلاها.. علاوة على ما تترجمه من ان هناك العديد من القيادات تفتقر إلى مهارة صنع القرار، نظراً لتدني خبراتها بلوائح وقوانين المؤسسة التي ترأسها، الأمر الذي تعجز في ظله عن البت بالموضوع، أو تتخبط وتعقد الأمور بما يترتب عن ذلك ضياع حقوق، أو تسويف للوقت والجهد، أو تعطيل للمصالح، خاصة وأن بعض المسؤولين ينقصهم «المزاج» للقراءة فيحولون الطلب إلى مكتب آخر بدلاً من البت به. لكن في بعض الحالات يتوجه المواطنون إلى الرئاسة ليس طلباً لقرار أو توجيه يبت في قضاياهم، وانما لأنهم لديهم قرارات أو توجيهات، وتتقاعس الجهات المعنية عن تنفيذها.. وبتقديري أن وضعاً كهذا يعد الأخطر لكونه غالباً ما يتطور إلى صيغ وممارسات مؤذية لسمعة الدولة وهيبتها، وأحياناً للأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي. ولا شك أن من الصعوبة بمكان تخيل ان بإمكان الأخ الرئيس أو مساعديه ترك شؤون اليمن الكبيرة، والمسؤوليات المختلفة للتفرغ لمتابعة الكم الهائل من الرسائل والمناشدات التي ترد بصورة يومية.. كما ان من الصعوبة بمكان خذل هؤلاء الناس الذين لو كانوا يثقون بجهة أخرى تحل قضاياهم لقصدوها.. وأمام هذه الاشكاليات فإن صّناع القرارات في مختلف الوزارات والهيئات لابد ان يتحملوا مسؤولية تعزيز الثقة بين مكاتبهم وبين المواطن وتوسيع صدورهم لسماع تظلمات المواطنين، وحسن اختيار مديري المكاتب وموظفي السكرتارية من ذوي الخبرات والاخلاق الحميدة ليحسنوا التعامل مع المراجعين، فهيبتهم من هيبة الوزير، وهيبة الوزير هيبة للدولة كلها. إن ثقة الفرد بمؤسسات الدولة تتعزز عندما يتعزز النظام في هذه المؤسسات، وتصبح القوانين هي السلطة العليا التي لا يعلوها اجتهاد أو استثناء، وكذلك عندما تشتد الرقابة الداخلية، ولا تغيب أعين الوزير أو المسؤول عما يدور داخل مؤسسته من حراك يومي.. ! ولا يفوتنا ان نذكر ان بعض الوزارات تعلق إعلاناً يحدد الأيام والفترات المخصصة لمقابلة الوزير، لكن للأسف بعض الضيوف الثقال الظل برلمانيين ومسؤولين يستحوذون على الفترة كلها ويحرجون الوزراء.. فهل لنا ان نتوسل إليهم بالتحلي بقليل من الذوق «كرمال عيون» القادمين من المحافظات، ومن يقفون في الطابور بلا مال ولا جاه !!