أقصد ب «عمر الزهور»: فترة النضوج المعرفي ورسو قدم الأستاذ الجامعي في تخصصه، و بيت القصيد أنني ألتمس «مع من يلتمس» من وزارة الخدمة المدنية أن تعيد النظر في شأن إحالة استاذ الجامعة إلى التقاعد. فجدير بها أن تبادر إلى فهم الواقع الأكاديمي واستثناء الأكاديميين من هذا النظام لنكون بذلك قد جنبنا أنفسنا مغبة السعي لوأد المستقبل والإصرار على إقصاء أستاذ لا يزال في كامل قواه المعرفية أو في قمة عطائه الفكري والعلمي. تُرى هل غاب عن الأذهان أن الاستاذية معناها تراكم خبرات ومعارف تزداد رسوخاً في الذهن مع تقادم السنين واستمرار مناقشتها مع المتعلمين، وأن التصاق الاستاذ الجامعي بتخصصه أمر يفضي إلى التعمق في معرفة أسراره وطرق تناوله وكيفية البحث فيه أو تقديمه للطالب قارئاً أو مستمعاً؟! هل يصح أن يقضي أستاذ بضع سنين معيداً في الجامعة منتظراً دوره في الابتعاث، وعند ابتعاثه يقضي عقداً من عمره أو عقداً ونصف في البلد الموفد إليه خصوصاً أصحاب التخصصات التقنية والنادرة ثم يعود هذا الاستاذ لينتظر قرار إحالته إلى التقاعد؟! إننا بحاجة إلى هذه العقول.. بحاجة إلى نشاطها وخبراتها وتجاربها التي تحتاج إلى فرصة كي تتخمر وتستطيع أن تعممها على دارسين آخرين.. نحتاج إليها بالقدر الذي انفقت عليها خزينة الدولة لإعدادها لتكون مناراً لقوى ناهضة نحن بمسيس الحاجة إلى قدراتها ومهاراتها في بناء الوطن أرضاً وإنساناً. إن استمرار هذا الأسلوب في تبديد ثروة الوطن من العقول الأكاديمية وتنحيتها عن ممارسة أعمالها في أوج عطائها العلمي يعني أن جامعاتنا ستظل تدور في حلقة مفرغة، فمن تبتعثهم في التخصصات النادرة يعودون بيض الرؤوس نظراً لتقيدهم بأنظمة الجامعات المتخرجين فيها وهي أنظمة دقيقة لا تمنح شهادات الماجستير إلا بعد خمس إلى ست سنوات من الدراسة ومثل ذلك في الدكتوراه والبكالوريوس، وهذا ما يوحي بأن إحالة مثل هؤلاء إلى التقاعد في وقت مبكر من ممارسة أعمالهم والتفكير في ابتعاث آخرين يلاقون نفس المصير يعد عبثاً أوجدته رؤية قاصرة لم تفكر ملياً فيما ينبغي أن يكون عليه التعليم الجامعي في المستقبل، واستمرار هذا النهج يؤكد أننا إلى الآن لم تخالجنا الرغبة في صناعة استاذ جامعي متمكن يحل محل العقول الوافدة ونحقق بذلك قدراً من الاكتفاء الذاتي في إدارة الموقف التعليمي العالي. إن خبراء العالم المتحضر وعلماءه جهابذة أشياخ تزخر بهم الجامعات العالمية وتحرص على الاهتمام بهم وإعطائهم حق الرعاية، فهم مصدر التنوير وخبراتهم الطويلة طريق العقول الناشئة لخوض لجج العلوم العصرية وقد يفرّغون عن العمل للبحث وإجراء التجارب لكن مع وجود الوسائط المتعددة التي لا تتوانى في نشر أبحاثهم ومعارفهم عبر وسائل أبرزها الكتاب الورقي والإلكتروني. أما نحن فإذا ما أقررنا وآمنا بمحدودية قدراتنا المالية لدعم البحث العلمي توجب علينا الإيمان بحتمية الاستثمار الكامل لهذه العقول وتمكينها من نقل خبراتها توفيراً للوقت والجهد وإثباتاً لوجود رصيد من القدرات العلمية الوطنية الحية أعدت لتنير درب العلم إلى ما شاء الله. لا أن تحصل على درجة الأستاذية في اليوم الأول وتتسلّم قرار التقاعد في اليوم الثاني.!! ما قادني إلى الحديث عن هذا الموضوع هو أنني أعيش هذه الأيام جدلية الترجيح بين العناوين الأكاديمية لأختار منها موضوعاً مناسباً للبحث.. وحدث أن جرتني قدماي إلى اساتذة كبار طلباً للمشورة العلمية فكانت النتيجة أن وجدت عندهم ما لا يوجد عند غيرهم.. وجدت ما تؤيده الحجة وتفصح عنه الخبرة ويلجم خيال المبتدئ عن التفكير بدراسة المدروس وبعثرة الململم. هذا الحدث يجعلني كغيري أقرأ مسألة تغييب الأستاذ الجامعي عن أعين تلامذته قراءة مليئة بالشكوك من أننا لم نعِ بعد وظيفة استاذ الجامعة أو الغاية من ابتعاثه؟!