الكتابة الصحفية وفنونها متعددة بتعدد الأساليب والأشكال والألوان الأدبية والفكرية، والأمر ذاته ينطبق على المفكرين والمثقفين والكتاب الصحفيين الذين يتأثرون بمرجعيات وعقائد شتى سياسية وفكرية واجتماعية وثقافية. وبقدر هذا التأثر ينبع الاختلاف والتغاير بين هؤلاء. وقد قام الباحث الكويتي «جاسم الكندري»، اعتماداً على نوع الأطروحات التي يتبناها كل كاتب أو مفكرٍ أو باحث، سواء أصدرها في مقال صحفي أم عبر عنها في ندوة علمية أو من خلال دراسة بحثية أنجزها أو بحث علمي، بتصنيف الكتابات أو بالأحرى الأطروحات التي تتضمنها إلى عدة أنواع، هي: السلطوي، والرومانسي، والإسقاطي، والدرامي، والموضوعي، وفي رأيه أن جميع الأطروحات غير مقبولة باستثناء النوع الأخير، لأسباب عديدة سنوجزها في تناولتنا هذه. وعلى الرغم من وجاهة التقسيم الذي اعتمده الباحث السابق، وعلميته لقيامه على دراسة علمية استقرائية لاتجاهات الفكر ولأنواع الأطروحات الفكرية التي تعتمل في الوسط الثقافي العربي، فإننا لا نستطيع أن نسقط ذلك التصنيف على واقعنا الفكري اليمني بطريقة آلية نظراً لتداخل تلك التصنيفات لدى كثير من باحثينا ومفكرينا ومثقفينا. ولاعتبار آخر يتمثل في مزج كثير منهم - في كثير من الأحيان وبطريقة اختيارية واعية وبإرادة منفردة - بين أكثر من أسلوب، واختيار اللجوء إلى أكثر من طريقة في الكتابة والتحليل وتفسير الواقع اليمني المعيش، وهو حق لا يمكننا أن ننكره على أحد منهم.. وحتى لا نفسد على القارئ متعة معرفة تلك الأنساق الفكرية والأطروحات المختلفة لمفكرينا ومثقفينا، ولكي نجنب القارئ التحيز لواحدٍ منها، سوف نستعرض خصائص كل أسلوب من تلك الأساليب، والآثار التي يخلفها كل واحد منها على المجتمع وعلى التجربة الديمقراطية الوطنية.. فالكاتب «السلطوي» يستلهم تصوراته ورؤاه وأفكاره من توجهات السلطة وقراراتها، وهو يحاول تصوير الواقع على غير ما هو عليه، متوهما أنه يفيد السلطة بإخفاء الحقائق عن متخذ القرار وتزوير الدلائل والوقائع، وليس مهماً معرفة الدوافع التي تقف وراء ذلك؛ حيث تستوي المسايرة أو المجاملة مع التملق أو الطمع أو الرهبة، لأنه في المحصلة الأخيرة يضر من حيث يعتقد أنه ينفع، إذ تصبح كل قرارات السلطة وسياساتها المرسومة مجافية للواقع بعيدة عن تلبية مطامح المحكومين، وعاجزة عن تطوير التجربة الديمقراطية التي يصورها صاحب الفكر السابق على أنها قد بلغت المنتهى ووصلت إلى قمة التطور، ولا موجب لمراجعتها أو تعديلها، كما يتسبب في اتساع الفجوة بين المواطن وبين السلطة، ولهذا لا يمكن قبول الطرح «السلطوي».. من جهته يعيش الكاتب «الرومانسي» أو الحالم أو المثالي، وكلها صفات لنفس الاتجاه الفكري، بعيداً عن معطيات الواقع وظروفه وإكراهاته، ويحلق بنا في عوالم مثالية لنفيق منها بعد ذلك ونجد أنفسنا نراوح مكاننا ولم نحرك ساكناً، ولينطبق علينا المثل العربي القائل: «كأنك يا أبو زيد ما غزيت». وهو لا يقل في تأثيره السلبي على صانع القرار وعلى المجتمع عن التيار السابق، إن لم يفقه سوءاً، ولهذا لا يمكن قبول الطرح الرومانسي.. أما الكاتب «الإسقاطي» فهو يهرب بنا من شجاعة المواجهة والشفافية في التعامل مع واقعنا العربي، إلى البحث عن مبررات وأعذار خارج ذواتنا نعزو إليها عجزنا وإخفاقنا، ويدخل ضمن هذا الاتجاه الفكري أنصار «نظرية المؤامرة» التي تفسر التاريخ العربي القديم والمعاصر اعتمادا على حجة واحدة لم تتغير ولم تراجع، ترجع كل إخفاق أو تعثر في مشاريع الإصلاح والتغيير العربي إلى سبب خارجي، متناسية الظروف والأسباب الداخلية التي قادت إلى إضعاف المقاومة الداخلية لكل تدخل خارجي، أي الظروف التي أطلق عليها المفكر الجزائري «مالك بن نبي» مسمى «القابلية للاستعمار»، وهي نفس الظروف التي سهلت على قوات التحالف الأمريكي غزو العراق بعد سنوات من محاولات إضعافه داخلياً. والكاتب الإسقاطي، يلغي كل إرادة للفعل أو التغيير تنبع من الداخل العربي، ولهذا السبب يغدو اتجاها فكرياً، وطرحا ثقافياً غير مقبول. أما الكاتب «النرجسي»، فهو الكاتب الذي ينتصر لأفكاره ومعتقداته وحدها، ويبلغ عنده تقديس تلك الأفكار مستوى «اليقين المتزمت» الذي لا يقبل النقاش، ويعتقد أنه وحده الذي يمتلك الحقيقة كاملة، ويرفض مجرد التفكير في الاستماع لآراء وأصوات وأفكار الآخرين. وقد يغالي البعض في نرجسيته إلى حد يرى فيه كل من يخالفه الرأي على ضلال وخطأ، وتصبح كل رغبة في الحوار أو النقاش معه محاولة للانتقاص منه والتقليل من قدره، ويتسم هذا النوع من التفكير والكتابة بالانغلاق على الذات ورفض الآخرين. ولهذا السبب يغدو مجرد التفكير في قبول هذا النوع من التفكير ضرباً من الجنون. والكاتب «الدرامي» يعمد إلى المبالغة في التقدير والتعميم وفي التهويل، وصاحب هذا النوع من التفكير لا يرى من الألوان إلا الأبيض أو الأسود، ليدخلنا في نفقٍ مظلم حيث لا أمل ولا رجاء في مخرج أو ملاذ. وأتمنى لو قدر لكل قارئ أن يطلع على ما يكتب في كثير من صحفنا الوطنية باختلاف ألوانها الحزبية والسياسية، ليقرأ لكتاب الدراما اليمنية ما يشيب له الولدان، من هول الأحداث القاتمة والتحليلات البعيدة عن قراءة الواقع اليمني. صحيح أن واقعنا ليس مشرقاً كله، لكنه ليس قاتما ومظلماً أيضا، وصحيح أن تجربتنا السياسية والديمقراطية اليمنية لم تصل حداً من الكمال، وأن هناك كثيراً مما يتوقع تحقيقه في الأيام القادمة، لكن من غير المعقول أن ننكر جملة واحدة كل ما تحقق في السنوات الماضية من مكاسب مهما بدت لبعضنا غير مقبولة وغير كافية. ولذا ينطبق على الطرح الدرامي ما انطبق على سابقيه، فلا يمكن لعاقل أن يقبل فكراً عدمياً ينكر كل شيء. لجملة الأسباب السابقة لا يمكن قبول أي من تلك الاتجاهات الفكرية والأطروحات الثقافية، ويصبح البحث عن طرح «موضوعي»، يقوم على ثقافة الحوار والاحترام المتبادل والتسامح، والتقييم الواقعي المقبول لتجربتنا السياسية بكل تفاصيلها، لنثبت فيه أن الديمقراطية تنجح باستمرار الممارسة بطريقة ديمقراطية، ولندشن حواراً نتمثل فيه مقولة الإمام الشافعي: «.. إن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، ويستند إلى قناعة بأن الاختلاف في الرأي لا يؤدي إلى فساد ذات البين أو فساد الطوية.. تُرى ألم يحن الوقت بعد لمفكرينا ونخبنا المثقفة - على اختلاف مرجعياتهم السياسية والفكرية - لمراجعة كثير من قناعاتهم بعيداً عن حسابات الربح والخسارة، وبعيداً عن لغة التفاؤل المفرط أو التشاؤم المحبط. وليدشنوا حواراً فكرياً جماعياً ومجتمعياً، علمياً وموضوعياً لتقييم واقع تجربتنا السياسية والديمقراطية اليمنية وبيان مالها وما عليها؟ ونشر كافة الأدبيات عبر وسائل النشر المختلفة، لمراجعة وتعديل وتصويب تلك التجربة صوناً لها ودعماً لمسيرتها. أليست الكلمة أمانة يجب على كل فرد منا أداؤها لمن يستحقها؟! مصداقاً لقوله تعالى في محكم التنزيل: ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً?، [الأحزاب: 72]. وقوله تعالى: ?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً?، [النساء: 58]. صدق الله العظيم.