لم يكن الفقر وحده يستطيع تحريك الإنسان في اتجاه الهبوط المعنوي والأخلاقي والتمرد على معاني عفة النفس وكرامتها والتي كانت إلى عهد قريب تضفي على الكثيرين من الفقراء والمحتاجين حداً ضرورياً من الكبرياء وعزة النفس تمنعهم من السقوط لتلبية احتياجاتهم الضرورية عن طريق مد أيديهم بالسؤال..كان التسول إلى عهد قريب يعتبر منقصة تحول دونه أعراف وتقاليد لاتجيز السماح للإنسان أن يهبط بكرامته إلى حيث يهين نفسه، ويمزع لحم الحياء عن وجهه..كان البعض يفضل الموت جوعاً ولايسمح لتراب المذلة أن يعفر وجهه أو يلتصق غباره بأحد أفراد عائلته!! فماذا حصل اليوم ونحن نشاهد هذه الجحافل من الشباب والعجزة والكهول والنساء والفتيات قد نزعوا عن وجوههم قناع الحياء وبدوا سافرين يلحون في السؤال يتضرعون ويتذللون، بل نجد بعضهم يتجهم في وجوه الذين لايعطونه المال وبعضهم يرفض قبول المال القليل طمعاً في أن يحصل على المال الكثير..فالقليل من المال لم يعد يكفي لإرضائهم..فأين ذهب الحياء للرجال والنساء والأطفال؟ الذين نجدهم في الطرقات والأسواق والحوانيت والمساجد يستخدمون كل وسائل المكر والكذب والخداع، فمنهم من يدعي مرض زوجته أو أبيه أو أمه وأنه يحتاج إلى قيمة الرقود في المستشفى وقيمة العلاج ومنهم من ينفث دماً من فيه فإذا وجدوا من يتحرى الأمر فإنهم يعترفون إنما كانوا يفعلون ذلك خداعاً ومكراً. ماذا جرى للناس؟ الكبار والصغار يتسولون بدون حياء ولا خجل!إنهم يكذبون والناس يصدقونهم فإذا بهم يعتبرون ذلك ذكاء منهم وشطارة وقد صاروا يعتبرونه عملاً مشروعاً يدر عليهم الأموال بدون مشقة ولا عناء، تجدهم يصرفون ما يحصلون عليه ببذخ وإسراف في شراء القات وشراء سلع سخيفة، بينما هناك بعض العائلات المستورة والأفراد المحترمين لاتكفيهم معاشاتهم يواجهون شظف العيش، يقترون على أنفسهم وعلى زوجاتهم وأبنائهم بسبب قلة مابأيديهم من مال يمنعهم الحياء أن يفضوا لأحد بماهم عليه من حال، فلا يراهم الناس إلاَّ من خلال عيون بعض الجمعيات الخيرية التي تبحث عنهم قبل أن يبحثوا عنها. ليس هناك من شك في أن هناك عوامل كثيرة قد تضافرت في خلخلة موازين التقاليد والأعراف، بحيث أدى ذلك إلى أن يفقد الكثيرون توازنهم وثقتهم بالله وبأوطانهم وبأنفسهم، فارتفاع الأسعار والبطالة ورداءة التعليم وافتقار الإنسان إلى الشعور بالأمان خوفاً على نفسه ومستقبل أبنائه، جعل الناس يرون تجهم الحياة ويرون ملامح الضياع ولايرون علامات الانفراج فأخذوا يشقون طريقهم في طريق منحرف ليس فيه استقامة بل يتعارج نحو الهبوط، فهم من شدة سرعة هبوطهم لايرون مايبشر بخير ولا بأمل ولا بانفراج فأنَّى لهم أن يروا ذلك دون كبح سرعة الهبوط. وفي ظني أن التسول يمكن الحد منه ومحاصرته ثم تقليصه وإضعافه فلا يبقى منه إلاَّ القدر الضئيل الذي لايكاد يراه الناس أو يحسون به، ذلك أمر ليس بالمستحيل وذلك عن طريق إصدار قوانين صريحة وواضحة تنص على منع التسول في الأسواق والمساجد ثم تجد هذه القوانين من يحترمها ويلتزم بتنفيذها بداية بالأمن العام والنيابة العامة ودور القضاء.. على أن تأتي هذه الخطوة مدعمة لجهود الدولة ممثلة بوزارة الشئون الاجتماعية والعمل..حيث تتوجه كل المخصصات المالية التي تصرف نقداً للأفراد والأسر والجماعات كل شهر أو كل ثلاثة أشهر تتوجه كل هذه المخصصات لإعداد الفتيات والشباب في المناطق الريفية وضواحي المدن والمدن نفسها في كسب مهارات يدوية وتقنية تمكنهم من كسب رزقهم من «عمل أيديهم». وهذا يعني أن يتوقف هذا النزف المالي الذي تضخه وزارة الشئون الاجتماعية في أيدي الآلاف من الأسر التي لاتلبث أن تحول هذا المال دون الاستفادة منه بشيء كما لوكان ماء صب في السائلة بل إننا نجد أن هذا الأسلوب في التعامل مع من تريد الوزارة مساعدتهم قد حولهم إلى كسالى خاملين، يقضون أوقاتهم في متابعة الجمعيات الخيرية والإنسانية والجري خلف رجال الأعمال والوقوف أمام بيوت الأغنياء لساعات طويلة أو التظاهر بالفقر والمسكنة في المساجد يطلبون المساعدة ويبتدعون في سبيل ذلك شتى الحجج والذرائع والمبررات التي يتم اكتشافها بسهولة فيتبين كذبهم وتهافتهم..ومع ذلك لايوجد قانون واحد يمنع هذا العبث الذي صار يمارس في كل الأوقات والأزمان خصوصاً في شهر رمضان المعظم. هناك أموال كبيرة وكثيرة تقدر بالمليارات تنفقها الوزارة على أولئك المسجلين في قوائم الفقراء فما أن توصل هذه الأموال إلى أيديهم حتى تكون قد أصابها الهزال فلا تفيدهم في شيء..وقد كان بالامكان الاستفادة من هذه الأموال لو وظفت في الإعداد والتأهيل وتشجيع الصناعات اليدوية والحرفية وماأكثرها وتشجيع تربية الدواجن والمواشي وتربية الزهور والاهتمام بالزراعة وتشجيع زراعة المحاصيل والخضروات وغير ذلك من الأنشطة التي تحول الإنسان إلى طاقة عاملة بناءة..ثم يأتي بعد ذلك دور الجمعيات الخيرية في التنسيق فيما بينها والتعاون في إقامة أنشطة مختلفة متكاملة. فالملاحظ أن هذه الجمعيات تعمل بمعزل عن الآخرين وتسيطر على بعضها الأنانية واكتساب الشهرة بأي ثمن وكان حري بها أن تتوحد في وضع تصورات لحلول حقيقية تستطيع هذه الجمعيات أن تشارك مشاركة حقيقية في إيقاف عجلة التسول المتجهة بقوة نحو هاوية لاقرار لها..أما علماء الدين فإنهم لم يعيشوا المشكلة حتى نطلب منهم أن يشاركوا في وضع الحلول وقد اقتصرت مشاركتهم في الحث على الصدقة والزكاة وإذا لم يشارك الإعلام والثقافة والتربية والتعليم وأصحاب الفكر والكتاب في رفض التسول شكلاً ومضموناً فإن التسول سوف يطغى ويبقى هو القاعدة وماعداه فهو الاستثناء!!