يصعب، بل يكاد يكون مستحيلاً، أن يكون هناك معيار للوطنية أو القومية، أو التقدمية على أساس قُطري بعيداً عن الصراع العربي - الإسرائيلي، وعن القضية المركزية في هذا الصراع، قضية فلسطين وتداعياتها الخطيرة والمؤلمة، كما يحدث في غزة اليوم، وهي «تحت النار». لقد كانت - هناك - مشاريع تحرر وطني «اقتصادي واجتماعي» على مستوى قُطري، لكنها ضُربت من إسرائيل، كانت - هناك - خطط قطرية للدخول إلى نادي القوى النووية - العراق على سبيل المثال - لكنها ضُربت من إسرائيل مبكراً في العام 1980م تقريباً. ولبنان لم يُضرب من إسرائيل لمجرد فقط أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت هناك بل لأن لبنان كان لسنوات مضت مركز إشعاع ثقافي وسياسي للعالم العربي كله، وأىضاً لأن أمريكا وإسرائيل أرادتا أن تستعرضا في لبنان عضلاتهما العسكرية وقدرتهما على القتل الجماعي والتدمير والتخريب بهدف إرهاب العالم العربي كله.. ولأنهما أرادتا أيضاً تمزيق أوصال لبنان طائفياً كنموذج يمكن نقله إلى مناطق أخرى من العالم العربي.. لذلك كان القول بأنه لا وطنية ولا قومية ولا تقدمية أو ثورية دون موقف محدد من الصراع العربي - الإسرائيلي، ومن القضية المركزية فيه «فلسطين»، وليس غزة أو الضفة فقط.. ومن الثورة الفلسطينية، ومن أداتها التنظيمية السياسية والعسكرية «منظمة التحرير الفلسطينية».. موقف لا يقتصر على البيانات المعلنة، وإنما يعبّر عن نفسه في سلوك عملي ملموس.. فالخطر يهدد الجميع، والمشروع الصهيوني - الأمريكي - الأوروبي، لم يكن يريد فلسطين وحسب، ولكنه يريدها كقاعدة ارتكاز ينطلق منها لتحقيق أهدافه في المنطقة العربية بأسرها. الواقع.. إننا بإزاء مشروعين: مشروعنا العربي الحضاري، والمشروع الأمريكي - الصهيوني اللاحضاري!! مشروعنا نحن هو مشروع للتحرر والحرية، للخلاص من التخلف والتبعية والكهنوت.. مشروع للنمو والتنمية والارتقاء بالإنسان العربي مادياً وروحياً.. للسلام والديمقراطية. وعلى الرغم مما هو متوافر للمشروع الحضاري العربي من عوامل قوة هائلة، بشرية واقتصادية، علمية وثقافية وتاريخية، فإن قوى المشروع العربي لم تنجح في شيء، قدر نجاحها في تبديد ما تملكه من طاقات، وفي تدمير ما لديها من عوامل قوة، البعض منها نكَّس راياته بلا حياء.. والبعض الآخر رفع رايات زائفة أدت إلى قتالٍ دامٍٍ، ليس ضد العدو، ولكن بين من كان مفترضاً أن يكونوا جنوداً في خندق واحد.. ثم فريق آخر فقد القدرة حتى على أن يختار الموقف الصحيح من الفصيل العربي المتقدم في مواجهة المشروع الأمريكي - الصهيوني، وذهبت به التحليلات أحادية النظرة إلى أن يلقي بكل أوراقه، أو كما كان يقول أحد الزعماء العرب 99% من الأوراق أو 001% منها في أيدي أعداء مشروعنا الحضاري. إذن.. ليس من المستغرب - وهذا هو حالنا - أن نجد المشروع الأمريكي - الإسرائيلي المضاد يوغل في ثقته بنفسه وثقته في ضعف من يواجهونه إلى الحد الذي يعلن فيه نواياه صراحة متبجحاً، عن أهدافه في: تركيع العرب، تجويعهم، تدمير واستنزاف اقتصادياتهم، استئصال الإرهاب من أوساطهم، طمس وتشويه ثقافاتهم، والحيلولة بين أن تكون لهم هوية حضارية. إنه ووسط التهاتف العربي، ورغم التشتت، وبرغم الضربات من الأمام ومن الخلف، استطاعت الثورة الوطنية الفلسطينية «حماس وغيرها من الفصائل الوطنية الفلسطينية المقاومة»، أن تحافظ على موقعها كفصيل متقدم في هذا الصراع بين المشروعين، كفصيلٍ متقدمٍ لم يفقد التماس القتالي مع العدو.. بل إنه كلما حاولت أيدٍ عربية أن تبعده عن خطوط التماس القتالي مع العدو يسعى إلى إيجاد خطوط تماس قتالية جديدة.. وحينما يحرص أشقاؤنا في فلسطين على أن يبقون دائماً في تماسٍ قتالي مع الصهاينة، فإنهم لا ينطلقون في ذلك من عنادٍ أو مغامرة أو تصور غير واقعي - كما يقول البعض - وبأنهم يستطعيون أن يخوضون نيابة عن كل العرب معركتهم في مواجهة عدو له كل هذا الخطر، وفي مواجهة أولئك المهزومين داخلياً. إنهم كثوارٍ ينطلقون من حقيقة لا يعيها إلا الثوار المقاتلون، وهي: أن هناك جماهير عربية قادرة على أن تلعب دوراً حاسماً في هذا الصراع المصيري.. وأن هذه الجماهير مهما تكاثرت عليها أدوات القمع والقهر والإذلال، قادرة على أن تكسر يوماً مَّا قيدها، وأن تفلت من أسرها، وتقوم بدورها!! ولكي يأتي هذا اليوم فإنه مقدور على أن يتحمَّل إخواننا في فلسطين كافة الطعنات من الخلف، والضربات من الأمام، لكي تترسخ وتبقى حيَّة فينا قيم الصمود والاقتحام والمواجهة. غداً تشرق الشمس من جديد.. وتفلت غزة من أسر النار والحصار.