ساعات معدودة من عام 1967م كانت كافية لأنه يبسط العدو الصهيوني جناحيه على جزء كبير من الأرض العربية باحتلال سيناء والجولان والضفة الغربية، وقياساً باستراتيجية العداء التي يمتلكها اليوم فإن تلك المرحلة الستينية كانت مبكرة من عمر هذا الكيان، حيث بواكير طيشه الاستيطاني لم تكن بالعميقة الجذور إلا أن الجيوش العربية حينئذٍ أعيت جواباً وكأن ما بالحي من أحد..!. والشيء الأساسي في هذا الانتقال إلى حضرة التاريخ هو استكناه حقيقة النزاع الذي تغيّرت حساباته اليوم في حين الموقف العربي لم يزل في وضعية غير معترفة بما آلت إليه صيغة هذا الصراع مع العدو الاسرائيلي. فالعرب اليوم في حقيقة الأمر يقفون في خط المواجهة بآليات سياسية قادرة على تغيير المعادلات وإحداث التحولات والوصول إلى نتائج تضمن له مساحة من التهدئة المستمرة التي تصرف أنظارهم إلى بناء الإنسان واستثمار قدراته إلى جانب التيقظ لإفشال أية مخططات عدوانية يديرها الغرب واسرائيل من أجل بقاء الأوطان العربية رازحة تحت التبعية المطلقة التي لا يحدها حدود، ولا تحاصرها شروط. إذن من الضرورة بمكان أن تبادر الأنظمة العربية اليوم بالاحتكام إلى منطق الواقع، وتعمل على استثمار كل الامتيازات التي تمنحهم إياها هذه المرحلة من عمر الصراع، وبعدها ستكتشف هذه الأنظمة أنها لاتزال تتمسك بمنطق قديم ولغة عقيمة في التعامل مع كبرى القضايا التي تمس حياة الإنسان العربي وحقوقه المسلوبة.. ما أبداه اليوم أبناء غزة من مقاومة شرسة وتجلّد أمام زحف الجيوش الاسرائيلية المتواصل من جبهات متعددة فيه أعمق الدلالات وأنبل الدروس، لكي تمارس الأنظمة العربية ومعها الشعوب، الحياة في هذا الوجود من زاوية الإيمان بقدسية الموقف العربي الموحد الذي يستوعب حتمية المصير المشترك، وثقل التبعات الناتجة عن الاستضعاف حتى عن اتخاذ الموقف الجاد حيال ما يجري في المنطقة. إنها بضعة عشر يوماً مرّت على بدء الحرب إن صح التعبير، وإلا فإنه عدوان لا يرقى طرفه المستهدف «بالفتح» لأن يكون محارباً ولم تتحقق لحظة الخلاص التي جازفت من أجلها اسرائيل، فرجال المقاومة العربية في غزة يبدون ضراوة واستبسالاً عجيبين يكسرون بهما كل يوم جزءاً من شوكة العدو ويمرغون أنفه في وحل الهزيمة، ضاربين أروع الدلائل بأن الإرادة المنتصرة للحق لن يخذلها خاذل حتى وإن تجمعت قوى الأرض قاطبة لاستئصال شأفتها. فالشيء المهم في هذا السياق هو أن يستلهم النظام العربي كل هذه الدروس التي لا شك قد أوضحت الصورة الحقيقية لحالة العدو وطبيعة السياسة الغربية تجاه المجتمع العربي منذ بدء أول جولة في هذا الصراع الذي يدخل اليوم عامه الستين، وإزاء هذه التطورات فليس من حق أي كان أن يدعي أن غموضاً لايزال يكتنف الخلفية الاسرائيلية وكذا الخلفية الغربية المسؤولة عن توجيه خطوات إسرائيل وتحركاتها في المنطقة. وفي الموقف الأخير للدبلوماسية العربية في مجلس الأمن تأكيد لما طرحناه آنفاً بشأن الإمكانات التي تصنع نفسها على طاولة العرب لإبداء الموقف الواضح والصريح والمسؤول وكل ما يعتمل من أحداث وسياسات تسعى لإلغاء الذاتية العربية، فالإصرار الذي أبدته الدول الغربية دائمة العضوية في مجلس الأمن بشأن الاكتفاء باستصدار بيان رئاسي عن المجلس طارحة من حساباتها الرغبة القديمة الجديدة من الجانب العربي في سماع موقف محايد يرسي دعائم الأمن في العالم والمنطقة العربية خصوصاً، وكذا مكابرتها بصرف النظر عن الطرح العربي.. ذلك الإصرار المتعجرف تنضح اليوم هشاشته حينما استطاعت الدبلوماسية العربية أن تلزم تلك الدول بتعديل موقفها وإجبارها على التجارب مع الطرح العربي المنطلق من موقف قومي ومسؤول يعزز الكرامة العربية وأحقيتها في الدفاع عن قضاياها. . ونحن هنا تلزمنا الإشادة بإيجابية الموقف السعودي ممثلاً بوزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل، الذي رفض فكرة البيان الرئاسي لبث الرماد في عيون العرب، وأكد في اجتماع مع وزراء خارجية الدول الثلاث دائمة العضوية حتمية الاستجابة الفورية لطلب التصويت على مشروع القرار العربي لإيقاف العدوان على قطاع غزة. وعندما رد الجانب الغربي دائم العضوية مجابهاً بالقول: هل تريدون أن نمارس حق «الفيتو» كان رد الأمير الفيصل قائلاً: «لا .. ولكن إذا سقط المشروع بسبب «الفيتو» فإننا سنعود إلى بلداننا، وسنعقد قمة عربية نراجع فيها علاقاتنا بكم أو سنكون مجبرين على أن ندير ظهورنا لكم ونقرر الخيارات التي تفرض نفسها».. نكتفي بالقول: إن هذا الطريق الذي سلكته الدبلوماسية العربية في لحظة واحدة من لحظات سعيها إلى الشرعية الدولية لمحاسبة الكيان الصهيوني على ما يقترفه بحق الإنسان الفلسيطني كل يوم، هذا الطريق يثبت للمعتقدين بضآلة العدة العربية لرفع الصوت والمجاهرة بالحق أن الإحساس بالموقف والاعتزاز بالنفس والشعور بالكرامة من شأنها أن تعمل شيئاً لهذه الشعوب المجمعة على أن تتحرك الأنظمة العربية للعمل بموجب طموحاتها وإرادتها.. فهل يدرك الجميع ذلك..؟!.