تجشّم الدكتور غازي القصيبي مشقّة الترحال في العوالم الداخلية للبشر من خلال الوجه المقابل، وأقصد به عوالم الجن، فإذا كان الناس يمثلون وجه الحقيقة المرئية بالنسبة لنا فإن عالم الجن حقيقة غير مرئية، وهنالك برزخ انفصال بينا وبين ذلك العالم . في روايته الأخيرة «الجنيّة» نتوقف أمام علاقة مُلتبسة تجمع شاباً عربياً من السعودية بشابة عربية من المغرب، وتتوج بزواج شرعي اعتيادي، لكننا وحالما نتقدم في قراءة النص نكتشف أن تلك الشابة المغربية لم تكن سوى «جنيّة» تقمصت حالة آدمية فاحتار صاحبنا في أمره وأمر العلاقة الزوجية المُفارقة لطبيعة الأحوال البشرية الملغومة دوماً بالخلافات الحميدة وغير الحميدة، والممزوجة بالأفراح والأحزان. كانت العلاقة الزوجية بالجنية ذات طابع خاص، فقد تميزت تلك الزوجة غير الإنسية بقدرة فائقة على إرضاء رغبات زوجها، والتباعد عن مألوف السلوك الأنثوي المألوف في عالم البشر، لكن هذا كان يعني غياب بُعد هام في حياة الزوج، فالإنسان لاتفتنه الزوجة الطائعة حد التماهي العدمي معه، ولايستطيب الحياة معها بدون منغصات وخلافات أشبه ماتكون بملح الطعام، ولهذا اختلف الزوج «الإنسي» مع زوجته «الجنيّة» فبدأت متوالية جديدة لقراءة المشهد. تمكن الروائي من تصوير ذلك العالم المجهول من خلال مقابلته بالمسميات السائدة في الجزيرة العربية، ووجد أن بعضاً من تلك المُسميات تتصل بطبيعة المكان، فسكان المناطق الزراعية يسمون الجن بأسماء ذات صلة بالزراعة، وسكان المناطق الحضرية التجارية يسمونها بأسماء ذات صلة بالمكان.. وهكذا . نستنتج من تلك القراءة أن عالم الجن عالم حقيقي ولكنه بعيد عنا، فقد جعل الله بيننا وبينهم برازخ، وأن كثيراً من الأفكار والنظريات الخاصة بهذا العالم يتخذ طابعاً أسطورياً افتراضياً، وأن الإنسان الباحث عن الامرأة السويّة الآدمية عليه أن يستوعب أن تلك السوية تقتضي تعايشاً يكون فيه كل طرف منتمياً لفرادته وكينونته وكرامته، وأن من يبحث عن زواج يكون فيه الرجل دليل المرأة العقلي والروحي ينجرف إلى درب الفشل، فالرجال قوامون على النساء في أُفقي الأخذ والعطاء لا لأخذ فقط، والمرأة أمينة على زوجها؛ لأنها صاحبة قرار وقدرة على تعمير البيت، وملاحقة تفاصيل الحياة اليومية التي قد لايستطيع الرجل ملاحقتها، وهكذا تصبح المعادلة بين الطرفين معادلة تستقيم على التكامل والتراحم والتواشج، وصولاً إلى بناء أسرة سليمة متماسكة . أفترض أن «غازي القصيبي» أراد أن يقول هذه الأُمور جملة واحدة ، واستعان بعالم الجن الافتراضي ليبيّن لنا أن العلاقات البشرية تستقيم على قوانين البشر ونواميس حياتهم، لا الخيالات الجامحة وتنكُّب مشقة السفر في عالم المستحيلات .