حتى الأمس القريب كانوا يلهثون بمضامين الوطنية والحرية والاستقلال والموت لأعداء الوطن، كالببغاوات، ويهرفون بهموم المواطن ومصلحة الوطن دون معرفة وإدراك، كعادتهم، في ركوب موجة الزمن من زاوية نفعية (براجماتية) خالصة، تندفع لوضع ذواتهم في بؤرة الضوء من خلال الضجيج العالي والوعي الخالي من أدوات المعرفة والفاقد لرؤية إنسانية عميقة تحدد مسار هذه الذوات وترسم لها خارطة طريق طويلة وأصيلة، فهم في عجلة من أمرهم وقد ارتهنوا لتيار اللحظة السياسية وبازارتها الصاخبة، فحيثما تنظر تجدهم يرهنون التاريخ ويقصون الأمل ويذبحون الحلم. (2) لقد ظهروا في لحظة، كانت الأمة تبحث عن خلاص من المستعمر (البغيض) وأعوانه، فوجدوا في نبض الأرض وروح المواطن نافذة يلجون منها إلى تفاصيل الحدث وتداعيات الموقف، خاصة، والشعوب العربية من الماء إلى الماء قد وجدت في تيار القومية العربية الهادر طريقاً للتحرير وفضاءً لعودة المجد العربي الغابر، فتبوأت الأحزاب الوطنية اليسارية والقومية والشيوعية المواجهة مع المخططات الاستعمارية الغربية الجديدة بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية وربيبتها إسرائيل، برضا ورغبة شديدة من بعض الدول العربية الأخرى التي كان المشروع الأمريكي الصهيوني للهيمنة على مقدرات المنطقة وقرارها السيادي حلمها وطوق نجاتها من المصير الحتمي لتحرير ونهضة الوطن العربي وامتلاكه مفاتيح العصر ومصيره المشترك، فكان هؤلاء أكثر وطنية من الوطنيين وأكثر يسارية من اليساريين وأكثر ماركسية من الشيوعيين، و(قومجيين) لا يشق لهم غبار. (3) لقد تنازع مصير المنطقة العربية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مشروعان منشطران بين عروبي نهضوي، اندمجت فيه التيارات الوطنية بكل ألوان طيفها، وآخر إقصائي تآمري، نفعي، مرتهن، غير منتمٍ، وكان هذا من طبائع الأشياء وصراع الوجود، في ظل التجاذب التي وقعت فيها الأمة العربية ورهنت مصيرها لقوى ومشروعات تنظر إليها بوصفها غنيمة العصر. لكن، كما يبدو، ما أصاب المشروع التحرري الوطني في مقتل، هم الطابور الخامس، الرابضون على ضحالة سياسية تسقطهم إلى مستنقع الخيانة، فكان أن نخروا في جدار الأمة، وسمّموا جسدها، ومازالوا يمدونها بأمصال مميتة، وقد ترسملوا، وكفى.