خلال الخمسين عاما الماضية كان لليمن ثلاث جمهوريات، اثنتان في عهد التشطير، والثالثة تكونت بقيام الوحدة، فيما هي الآن تتجه نحو الجمهورية الرابعة، كنتاج لحركة التغيير التي انطلقت في فبراير 2011م.. ميلاد الجمهورية الرابعة رهين الوصول الى انتخابات فبراير 2014م، باعتبار الانتخابات ستؤشر على نجاح مؤتمر الحوار الوطني الذي يستهدف خلق بنية سياسية وادارية مغايرة تماما لما كان سائدا في الجمهوريات الثلاث.. وحينها فقط ستشهد البلاد لحظة قيام الجمهورية الرابعة في تاريخها المعاصر. مؤشرات التحول النوعي، تجد اساسها في توافر قيادة سياسية جديدة برؤية وطنية وأفق رحب ، وهي لا تنفك تبذل جهودا حثيثة لخلق بيئة ملائمة للتهيئة للحوار الوطني.. فكان ان شنت حربا لا هوادة فيها على القاعدة وانصار الشريعة في ابين وشبوة وعدن وحضرموت، ليتحقق مبتغاها في فترة قياسية....فيما لم تتوان عن فضح الجهات والدول التي تحاول عرقلة المرحلة الانتقالية، كإيران في دعمها للتمرد الحوثي والتيار المسلح الانفصالي .. بهدف عزل التيارات المسلحة وتجفيف مواردها.. الرئيس هادي يدرك تماما اهم مستلزمات بناء اليمن الحديث: اولها مؤتمر الحوار الوطني الشامل، لتأتي الجمهورية الرابعة معبرة تماما عن الارادة الكلية للشعب، فيما المطلب الآخر، اعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن، لا لأن بقاء الوضع الراهن لها، عائق كبير أمام مؤتمر الحوار الوطني وتنفيذ مخرجاته، كون كثير من قادته لا زالوا يدينون بالولاء لنظام سابق لا يدخر جهدا في عرقلة التسوية السياسية، بل ايضا لأن بقائها على حالة من الانقسام والتفكك هو ما أتاح فرصة لبقية الفصائل المسلحة من قاعدة وحراك وحوثيين، للاستقواء واللعب على أمن ومستقبل البلاد. في تصريحه الأخير اعلن الرئيس هادي ان القوات المسلحة يجب ان تكون في خدمة الوطن لا السلطة، في اشارة الى وجوب مغادرتها لمربع طالما اعتادته حتى أضحت مجرد مليشيات تدين بالولاء لأشخاص لا وطن بأكمله... وفي ترجمة سريعة لتصريح هادي، عقد وزيرا الدفاع والداخلية اجتماعين بلجنتي اعادة هيكلة الجيش وهيكلة وزراة الداخلية.. ما يسمح بالتنبؤ الى ان قادم الأيام، ستشهد مزيد جهود نوعية تضاف الى جملة قرارات وتغييرات عسكرية وامنية وادارية تمت سابقا، على طريق اعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن والتهيئة لحوار لا يفصلنا عنه سوى اقل من شهرين. حين ننظر الى نصف الكوب المملوء..فإن جهودا كهذه تبشِّر بميلاد قريب للجمهورية الرابعة، فضلا عن ان الرئيس الحالي يحظى بدعم طيف واسع من الفعاليات السياسية والحزبية: داخل المؤتمر وفي اللقاء المشترك.. كثير من فصائل الحراك الجنوبي ذات التوجه الوطني، الاحزاب الجديدة على الساحة، مكونات الثورة الشبابية الشعبية.. وحتى قوى دولية اضحت تعلن صراحة تأييدها لجهود الرئيس هادي، بعدما نجح بدبلوماسية رصينة في ضمها الى صفه، خاصة انها اصبحت تعي الآثار المدمرة لمن يحاول اعادة العجلة الى الوراء.. بيد ان نصف الكوب لا يزال فارغا.. وفي المقابل، يجب ان لا نستهين بالقوى التقليدية المعيقة للعملية الانتقالية، ففي اليمن مكونات اجتماعية تقليدية، هي بطبيعتها ترفض التغيير، ولا تنظر اليه الا بوصفه سحبا لبساط السلطة من تحت قدميها لصالح قوى أخرى، وفق منطق الغلبة التي بُنيت عليه السلطة في اليمن لمئات السنين، وهي مكونات يمكن ان تتخذ منها القوى التقليدية العسكرية حصان طروادة، لديمومة بقائها على الهرم السياسي وإعاقة التحول الى دولة مدنية حديثة، تقضى على مصالح سياسية واقتصادية تراكمت عبر سنوات طوال.. الى جانب ان بعض أطراف دولية قد لا ترغب تحولا جديا ونوعيا في اليمن ربما اثر على أجندتها عاجلا ام آجلا. بيد ان نظرة تشاؤمية كهذه تغفل منطق السياسة القائم على براجماتية/ نفعية شديدة لتلك القوى ، وادراكها ان ليس لليمن سوى طريقين : اما الوصول الى دولة مدنية حديثة، يتساوى فيها جميع مواطنيها، دونما غلبة لطرف على آخر، وتتمتع بقسط وافر من الأمن ، أو بلد مفتت مشرذم، يسمح للقاعدة بمزيد من التمدد، ويملأ الجوار الاقليمي بأفواج النازحين.. ما يحتم عليها تغليب أهون الشرين، ومن ثم تدعم العبور الآمن الى الجمهورية الرابعة التي ستتولد من رحم مؤتمر الحوار الوطني.. علاوة على ان اليمن الجديد هو ما سيصنعه اليمنيون انفسهم.. والمجتمع اليمني رغم تقليديته الا انه أصابه الملل واليأس من حجم الاخفاقات في مسيرته وتضاعف معاناته اقتصاديا وأمنيا، ولن يتواني عن دعم مشروع دولة حديثة، تسهم في التخفيف من معاناته.. وبعدما ظل اليمنيون منذ جمهوريتهم الأولى في سبتمبر 1962م، في بحوث دؤوب عن دولة حديثة، جرى تغييبها عمدا من قبل النخبة السياسية الحاكمة آنذاك.. هي الآن أقرب ما تكون.