في البدء كان الحديث يدور حول الوحدة الاسلامية. وكانت هذه الوحدة هدفاً مُلحاً عند معظم المسلمين، وظلت فكرة الوحدة الإسلامية زمناً طويلاً وهي تتصدر الدعوات والمشاريع والأهداف والمطالب من أجل إعادة دولة الاسلام الواحدة. كل ذلك قبل أن تتسلل ايديولوجيات التشرذم وسموم التفرقة نحو الفكر والثقافة والعقول والتي أزاحت فكرة الوحدة الاسلامية من المقدمة كخطوة أولى تبعتها خطوات عديدة في نفس الاتجاه والمغزى حتى بدت هذه الوحدة مجرد وهم ولا يمكن تحقيقها وبدأ الحديث عنها في خاتمة المطاف كمن يحرث في البحر. وكل هذا جاء نتيجة ثقافة جرى توجيهها لهذا الهدف قصداً. وللأسف أقول: إن نجاح الثقافة المعادية لفكرة الوحدة الاسلامية قد تحقق بمساعدة من الداخل بعقول وجهود متعددة جرى توظيفها لهذه المهمة.. وعندما أدرك البعض صعوبة هذه الوحدة وربما استحالتها في ظل الموجهات والمؤثرات والتدخلات الغربية تحديداً، تنازل المسلمون عن هذه الفكرة وبخطاب آخر تم تأجيلها إلى أن تسمح الظروف والمعطيات العالمية على أن يبدأ العمل على تحقيق الوحدة العربية وتتضافر الجهود نحو هذه الغاية، وبذلك تصاعد الخطاب القومي وتصدرت الوحدة العربية الخطب والخطابات وكانت فكرة الوحدة العربية فكرة حية ولاقت من التأييد والحماس ما لايمكن وصفه. وعندما بدأ العمل على تحقيق الفكرة على أرض الواقع العربي تحركت الثقافة المعادية للوحدة واتجهت الجهود الغربية نحو إفشال هذه الفكرة واجهاضها في مهدها، وجنّدت لهذا الأمر الكثير من الطاقات وأنفقت الأموال الطائلة لنسف فكرة هذا المشروع الذي رأت فيه الدوائر الغربية خطراً على مصالحها ومن أجل ذلك زرعت أصواتاً معادية للوحدة العربية من الداخل العربي، وهي خطوة استراتيجية ومدروسة بدقة ،إذ إن المحاولات جميعها لن تكون أكثر نجاحاً من محاولة هدم المشروع من الداخل، ومن خلال خلق ثقافة تعمل ضد ثقافة الوحدة العربية، وتدعو للتمسك بالخصوصيات القُطرية والمحافظة على الكيانات الصغيرة كمحافظة على الخصوصيات الثقافية الضيقة والهويات القُطرية في مواجهة الهوية العربية والإسلامية التي جرى تسويقها على أنها ستلغي مادونها ولصالح أطراف على حساب أطراف أخرى، ودخلت بذلك الوحدة العربية دائرة الجدل. ومع مرور الوقت اتجهت السياسات الغربية نحو تأصيل فكرة الشقاق العربي والخلاف العربي، وزرعت الفتن وقسمت المنطقة العربية إلى أقاليم متماثلة ومتنافرة.. وبذلك أزيحت فكرة الوحدة العربية ووصلت إلى ما وصلت إليه الوحدة الإسلامية من قبل عند حدود الاستحالة ولم يجد العرب سوى القبول بالأمر الواقع والتمسك بالعروة التالية وهي الوحدة الاقليمية حيث يضم كل اقليم مجموعة أقطار ينبغي أن تتوحد في البداية كمقدمة للوحدة الكبرى، ولحقت هذه الوحدة بسابقاتها الأكبر منها لخلافات واختلافات داخل دول الاقليم الواحد وكلها مصطنعة ومدعومة من الخارج. ومضت الأمور نحو التراجع إلى أن وصل بنا الحال أخيراً إلى مطالب الوحدة الوطنية فقط داخل كل قطر على حدة، ومع هذا ظهر دعاة مناطقيون في كل بلد عربي ودعواتهم تصب في سياق ضرب الوحدة الوطنية وخلق ثقافة معادية لها، وهذه الدعوات هي امتداد للدعوات التي وقفت ضد الوحدة الاسلامية وتمسكت بالعروبية، وعندما جاء دور الوحدة العربية أطل الخطاب الاقليمي والقطري كآخر محطات التراجع التي يفترض أن لايسمح بمحطات بعدها لأن ما بعدها غير الفناء والانقراض وهو مايسعى إليه دعاة المناطقية اليوم في محاولة جادة منهم لإيصال الأوضاع إلى أضيق الدوائر، وهو مايعني أن المخطط هو ذاته والذي يسعى لتحويل العرب والمسلمين إلى عشائر وقبائل متناحرة تأكل بعضها. لذا على الجميع أن يدركوا أن هذه النتيجة هي هدف صهيوني تدعمه الدول الغربية الاستعمارية التي تحتل البلاد العربية والاسلامية في محاولة منها لإعادة الهيمنة والاحتلال ولكن من باب آخر وبصورة أخرى، ولهذا الهدف تأتي الدعوات المناطقية التي لاتخدم سوى أعداء العرب والمسلمين، ومن المؤسف حقاً أن يجري تسويق هذه الثقافة في بلادنا باستغلال مناخات الحرية والديمقراطية ليصل هذا الخطاب المناطقي إلى مرحلة متقدمة من القبح والسوء، حيث لم يترك هذا الخطاب باباً من أبواب الفتنة إلا وطرقه وانحط أصحاب هذا الخطاب إلى درجات متدنية وكشفوا من خلال خطابهم المناطقي عن ثقافة قذرة ونفوس مريضة لا هدف لها سوى الخراب وزرع العداء بين أفراد المجتمع الواحد الذي تجاوز هذه الصغائر كلها منذ زمن، والشواهد كلها تثبت حقيقة أن المجتمع اليمني قد تجاوز بالممارسات والأفعال ثقافة المناطقية التي أطل أصحابها مفصحين عن نواياهم السيئة التي تستهدف بنيان هذا المجتمع وأمنه واستقراره والروابط الاجتماعية القائمة بين الناس على أسس من المحبة والاخاء.. وعلى هذا الأساس يجب أن يقف الجميع في مواجهة ثقافة المناطقية والتي تبث سمومها ويدعي أصحابها أنهم يمارسون حرية رأي، وهي حرية لايمكن السماح بمثلها في الدول التي تسمى بالدول الديمقراطية الأولى بما فيها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها، لأن هذه الثقافة تهدف إلى خلق العداوة بين أفراد المجتمع وهي بذلك تستهدف البلد بمن فيه.. فهل من المعقول أن يمر هذا تحت مظلة الحرية والديمقراطية ؟؟