كان الراؤون الكبار يتحدثون دوماً عن عمارة القلوب، وطوراً عن منازل القلوب، قاصدين بذلك تعمير القلوب بالمحبة والعرفان وجعلها تحلق في منازل متعددة الدلالات والآفاق.. قابلة لأن تكون وعاءً هاضماً للتنوع الكبير في الرؤى والظواهر. وكانوا كغيرهم من الباحثين عن كُنه الأشياء وجواهرها يرون في الإنسان طاقة روحية كبيرة وقيمة إدراكية عالية تتجاوز حدود المرئي والمسموع إلى آفاق ما ورائية مداها القلوب الكبيرة المُشعّة بالمعاني والأبعاد. وعند المتنبي الذي ركبه شيطان الشعر نظرة تُماهي بين منازل القلوب بوصفها شعوراً ثم بوصفها انتماءً للمكان.. فالمنزل بحسب المتنبي يشي بالشعور والإحساس ويؤثّر في الفؤاد، فيحدث التطابق بين منازل ومنازل.. يقول: لك يا منازلُ في القلوب منازلُ هنا نجد المقابلة بين ثنائية الأنا المدركة والمنزل الساكن والعامر بالقيم الجمالية والمعنوية الخاصة. فالمنزل بهذا القدر ليس مجرد مكان يأوي إليه الإنسان بل هو المقابل المطلق لحوار الذات مع الوسط المحيط. ذلك الحوار الذي يؤنْسنُ الوجود، ويضفي على الأشياء حيواتها الخاصة، ويعمّر القلوب بالعاطفة والحنين. يقول قيس بن الملوح: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا فما حب الديار شغفْن قلبي ولكن حب من سكن الديارا فالدار عامرة بناسها وألوانها وأشجانها وأحلامها وروائحها. إنها المستودع السحري للعقول والقلوب المتشظية الهائمة في دروب الحياة ونواميسها المتقلبة.. في العمارة اليمنية التقليدية تتعمْلق الدور كما لو أنها عالم بكامله، تختزل الثقافة الخاصة وأنماط الحياة، وتتابع تنويع الأنساق المعرفية الذوقية، وتعانق الطبيعة.