كنت أحسب أنني بعد 18 عاماً عشتها في اليمن قد خبرت اليمنيين، وعرفت كل تفاصيل حياتهم، غير أن دخول الدكتور رشاد العليمي أمس إلى صالة عرس لأبناء الطائفة اليهودية، أعاد حساباتي إلى الصفر، وأيقنت أن «الحكمة اليمانية» سرُّ إلهي لايمكن استلهامه بالتجربة أو المطالعة والدراسة. كانت المرة الأولى التي أحضر فيها عرساً لليهود اليمنيين، وكم كانت المفاجأة مذهلة أن يشاطرهم الأخ نائب رئيس الوزراء أفراحهم رغم أنهم أقلية صغيرة جداً، وتعيش حياة بسيطة ولايمكن في أي بلد آخر أن يحسب لها النظام أي حساب على مختلف الأصعدة، إلا في اليمن تنظر إليهم السلطة بعين المواطنة المتساوية أولاً، وثانياً بعين العطف الإنسانية كونهم أقلية، وثالثاً بعين الفخر لكونهم فضلوا البقاء في وطنهم، وتمسكوا بهويتهم، ولم يكترثوا لكل إغراءات الهجرة إلى إسرائيل.. الدكتور العليمي الذي فاجأ المحتفلين بحضوره لم يجد سبيلاً لشق طريقه إلى حيث يجلس العريس فقد تقافز الجميع لاحتضانه والتسليم عليه، وأحاطوا به من كل صوب، فهو رجل شفاف ومتواضع ويحظى بشعبية واسعة للغاية، لذلك وجدت نفسي مستمتعاً بالتقاط الصور لهذه اللحظات الفريدة التي يترجم بها اليمنيون توادّهم، وتراحمهم، وتآخيهم بعيداً عن أية اعتبارات مناطقية، أو دينية، أو مذهبية.. وبعيداً أيضاً عن الاستعلاء والتمييز، حيث إن معالي نائب رئيس الوزراء لم ترافقه أية حراسات إلى صالة الاحتفال، ولم يكلف نفسه البحث عن واجهة المجلس بل انزوى بين الحاضرين فيما السعادة تغمر وجهه وهو يترجم إنسانيته بكل عفوية، ويعلمنا جميعاً بأن الكبير ليس بالمنصب أو الثروة أو الملبس، وإنما يصبح كبيراً بتواضعه، وحبه لأبناء شعبه، ومواقفه النبيلة التي لاتحتاج لمن يعرِّف بها بأنها قيم وأخلاقيات ديننا الإسلامي الحنيف.. ربما كان فضولي لمعرفة عادات يهود اليمن في الأعراس أحد أسباب وجودي هناك، ورغم أني وجدتها لاتختلف شيئاً كثيراً عن عادات المسلمين، لكنني لم أعد خاوي الوطاف بل اكتشفت مدى سماحة اليمنيين وقدرتهم على التعايش الآمن مهما اختلفت ظروفهم، فالحشد الكبير من المسلمين في عرس يهودي، ومشاركة نائب رئيس الوزراء، وأعضاء مجلس نواب، ومسئولين محليين، وإعلاميين، ومثقفين، إنما هو الرسالة التي أنقلها عبر هذا العمود إلى شعوب العالم، لأؤكد لهم أن اليمن بخير، وشعبها بألف خير، ووحدتها الوطنية أصلب من الجبال، وأن عليكم أن تتعلموا من هذه المدرسة فن التعايش، والتحاور الحضاري، والتآخي مع الأديان الأخرى.. ولعلي هنا سأعتب قليلاً على وسائلنا الإعلامية التي إما تتغيب أو تتجاهل رصد وتوثيق الجوانب الرائعة من الحياة اليمنية التي مازال العالم يجهلها.. فهذه أمانة وطنية وإنسانية، واستحقاق لشعبنا العظيم أن نوثق اللحظات والأيام والحقب التي يتجلى بها بأسمى أخلاقياته، وأعرافه، وعاداته.. فالمواقف الجماعية الشعبية هي التي تستحق أن تتصدر واجهات إعلامنا، وليست المواقف الفردية المشينة أو المسيئة لسمعة يمننا الحبيب.