“محمد” طفل في التاسعة من عمره ربما، يدرس في الصف الثالث الابتدائي. لديه ثلاثة إخوان من أمه التي ماتت وهو طفل. محمد الآن لم يعد يتذكر ملامح أمه، ما يتذكره فقط أنها ماتت، وبكى حينها..بكى بشدة رغم أنه لا يعرف معنى الموت..أو معنى أن تموت أمه..لكنه فيما بعد أدرك معنى أن يموت شخص..الموت يعني “أننا معا أحصلش اللي يشله الموت خالص مثل ما يقول الناس. “أنا كنت أحسب الموت إنسان متوحش يجي ويشل الواحد ويمشي”..محمد ببراءة سألني “تقول أمي شترجع متى؟”. فعلاً ما أصعب أن يسألك طفل..إننا نبدو أمامهم أغبياء بامتياز..ببراءة يسألون، لكنهم بذات البراءة ينتظرون الإجابة التي يتوقعونها!!.. محمد الذي تجبره “خالته” على جمع الخردة كما يسميها ليجمع لها قيمة أشياء إن لم يعود بها إلى البيت سيكون من المغضوب عليهم..وهو لا يجرؤ على فعل ذلك مطلقاً..يفضل محمد وهو الطفل المبيت خارج المنزل على العودة خال الوفاض إلى خالته، لقد قال بأنها “أي خالته” متحلفة به، بمعنى أنها تضمر العقاب له اليوم، لا لسبب، هي تفعل ذلك بمزاجية عالية. إنها تستغل عدم أمومتها لهم. أية إنسانة هذه التي تتعامل مع الطفل بطريقة متوحشة كهذه، محمد الذي من المفترض أن يكون الآن مع أصدقائه الأطفال يمارس لعبته المفضلة، وهي كما قال لي “الكبة” ويقصد بالطبع كرة القدم التي يلعبها في الحارة. التقيت محمد ساعتها وهو متجه إلى “صاحب الخردة” وعلى ظهره ثلاثة جواني، التقطت له الصورة الأولى جالس على الثلاث حتى يخفف عنه وطأت التعب، إنه أشبه بمحارب صغير، يستيقظ من النوم باكراً للظفر بأكبر كمية من العلب المستهلكة..يفعل ذلك لتوفير حاجيات خالته، لكن ذلك كما يقول محمد يجعله أكثر قدرة على جمع “بيس” له، فهو يبيع في اليوم أحياناً ثلاث إلى أربع جواني..يحصل مقابل الواحدة منهن على “50” ريالاً. الخامسة مساءً كانت الساعة حين التقيت محمداً في إحدى الطرق الفرعية، قال لي بأنه صائم، قلت له ليش تصوم؟..”عشان أدخل الجنة!!”..الجنة التي لا يعرفها محمد، ولا يدرك ماهيتها حريص على دخولها، لذا فهو يصوم ويصلي لأن الصوم بدون صلاة ما ينفعش كما قال محمد الطفل. يتألم هذا الطفل كثيراً..لكنه يبتسم في الصورة، يشرح لي حالته، وبعد لحظات يبتسم كمن يداري وجعه. الطفولة التي تبدو على ملامح محمد لم يتبق له سواها..ملامح الطفولة فقط..وما عدا ذلك فقد صادرتها خالته، وجواني الخردة، والأطفال الذين يضربونه كما قال لي..حين يكون مقوساً وعلى ظهره جواني البؤس والعناء. هو لا يحتاج أكثر من أن تراعي خالته فيه الطفولة، واليتم..بل الفقدان..والفقدان العظيم..كنت قبل فترة أحاول تصور حياتي بدون أمي، كنت أبكي..حينها كانت أمي تتألم في غرفة العمليات..ماذا لو تصورتم جميعاً طفولة بعضكم على الأقل دون أم..الأمر مزعج للغاية..تأكدوا أن محمد يعيش حالة جفاف غير عادية. جفاف عاطفي من خالته، وجفاف مادي. يشتري محمد له ولإخوانه بعض الحاجات، لكنه يشتري لأخيه الصغير الذي يحبه كما قال كسوة العيد. أبوه لا يعرف بما تمارسه خالته تجاهه وتجاه إخوانه الصغار ويصف خالته بأنها “ساعة مسكينة، وساعة ضابحة”..لكن محمد بحاجة لأمه، يحتاج لامرأة لا تقول له “أخرج لقط خردة وروح بيعهن بسرعة”، هو بحاجة لأم تدرك معنى الأمومة جيداً..محمد بما يشبه الاستنجاد قال “أشتي أمي ترجع لنا”.