من يصدق أن هذه الجميلة النائمة في أحضان صبر يُراد بها الفتنة...وتدور حولها دوائر السوء والوجهة ضلالٌ في ضلال...من يصدق أن منبر الثقافة ومشعل الحرية..ورمز الرقي في اليمن كله.. يْراد بها السوء .. تلك الغافية على أسراب الشعر المقفى بالذهول.. دولة المؤسسات والقانون واحد من الشعارات التي رفعتها مجتمعات ودول عديدة، بوصفه هدفاً لعمليات التغيير والإصلاح السياسي والقانوني، وسبباً في قيام الثورات الشعبية والإنسانية الكبرى عبر التاريخ، وقليل جداً من تلك الدول استطاعت تحقيق ذلك الهدف واقعياً، ونقلته من مجال الشعارات إلى حيز التطبيق العملي. بماتعنيه من سيادة القانون، واحتكام الجميع حكاماً ومحكومين إليه، أو تطبيقه على جميع مواطني البلد دون تمييز على أساس المكانة أو العرق أو النوع، وغيرها من العناصر التي قد تخل بقاعدة المساواة الفعلية أمام القانون. وربما ان إعلان القضاء الفرنسي فتح ملف قضايا الفساد، وإصداره أمراً بمحاكمة الرئيس السابق «جاك شيراك» بتهم اختلاس تعود إلى الفترة التي كان فيها يشغل منصب رئيس بلدية باريس، يعد بغض النظر عن حقيقة تلك التهم، وسر التوقيت، والأهداف الحقيقية غير المعلنة التي قد تقف وراء مثل هذا القرار - خطوة غير مسبوقة في تاريخ القضاء الإداري الفرنسي، وربما العالمي في إرساء مبدأ سيادة القانون بغض النظر عن مكانة الرئىس شيراك، وسمعته التي مكنته من نيل الاحترام والتقدير في أوساط الشعب الفرنسي، وشعوب دول عديدة حول العالم. وهو الأمر الذي نتمنى أن يحذوه قضاؤنا اليمني، عبر تقديم عشرات المسئولين والأشخاص المتهمين بقضايا الفساد، ممن ثبت للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تورطهم بتلك التهم، والتي أعلنت أكثر من مرة أنها ستقدمهم للقضاء حتى يتخذ في حقهم العقوبات المحددة بالقانون، وحتى تزداد قناعة المواطن اليمني بحقيقة شعار دولة القانون في مجتمعنا اليمني. والفساد، كما يعرفه «صموئىل هنتنجتون» صاحب نظرية صدام الحضارات الشهيرة في كتابة «النظام السياسي لمجتمعات متغيرة : ص 77» هو «سلوك الموظفين الحكوميين الذين ينحرفون عن القواعد المقبولة لخدمة أهداف خاصة».. ويذهب «هنتنجتون» إلى أن الفساد موجود في كافة المجتمعات، لكن من الواضح أنه أكثر انتشاراً في بعض المجتمعات منه في غيرها وأنه أكثر في مراحل تطور مجتمع ما منه في مراحل أخرى في ذات المجتمع، أي أنه يتزايد كلما اتجهت الدولة صوب التحديث أو الإصلاح السياسي. ويفترض هنتنجتون ومعه عدد من الباحثين أن الفساد يعني «.. الانحراف عن قواعد السلوك الإنساني القويم في أي مجتمع، وضمن أية ثقافة». والقواعد التي قصدها هنتنجتون في تعريفه السابق قد تتمثل في : قواعد الأخلاق التي تحددها المجتمعات لنفسها في فترة من الفترات، كما أنها قد تعني كافة القواعد القانونية المنظمة لممارسة الوظيفة بمافيها «قانون الوظيفة العامة» التي تمنح الموظف العام حقوقه، وتحدد له في المقابل كافة التزاماته وواجباته، وقد تذهب إلى القول بأن القواعد المقبولة في مجتمعنا اليمني يدخل فيها - إلى جانب القواعد السابقة - كل القواعد والالتزامات التي حددتها الشريعة الإسلامية، وكل القيم والأعراف التي رسخها مجتمعنا اليمني خلال المراحل المتتالية من التاريخ الماضي. إذ لايمكن في مجتمعنا اليمني عزل الممارسات المختلفة عن المحدد الأساسي أي الدين الإسلامي وقيمه وأوامره ونواهيه، وربما أن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه عدد كبير من المحللين لواقع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعاتنا اليوم هو تناسي ذلك الدور الذي يمكن للدين أن يلعبه على الدوام في تحديد تلك العلاقات «ونقصد الأصول والقواعد المرعية والخاصة بالمعاملات التي تحتاج منا اليوم إلى إعادة إحياء وليس التناسي والتغافل عنها». ويشير «زياد عربية بن علي» في بحث له نشر في مجلة دراسات استراتيجية، الصادرة عن جامعة دمشق، صيف 2005م، أن الفساد مصطلح له معان عديدة، فهو يعني «سوء استخدام المنصب العام لغايات شخصية»، «وتتضمن قائمة الفساد عدداً من المظاهر هي على سبيل المثال لا الحصر : الرشوة، والابتزاز، واستغلال النفوذ والمحسوبية، والاحتيال، والاختلاس، واستغلال «مال التعجيل» وهو المال الذي يدفع لموظفي الحكومة لتعجيل النظر في أمر خاص يقع ضمن نطاق اختصاصهم بقضاء أمر معين. أي أنه يتفق مع هنتجتون حول وجود «النية السيئة» لاستغلال المنصب العام أو الحكومي لأغراض بعيدة عن الغاية الحقيقية من وجوده في ذاك المنصب، وأنه لولا هذه النية والاستغلال الخاطىء للوظيفة العامة لما كان للفساد وجود، وإذا كنا نتفق مع تلك الآراء وخاصة حول وجود النية الخبيثة، فإننا نعتقد أن الموظف أو المشتغل في المال العام قد يذهب إلى هذا المنحى طمعاً في تحقيق مكسب شخصي أو إثراء سريع، لكنه لاينطلق في مطلق الأحوال من تلك الرغبة وإنما قد يدفعه إلى القيام بذلك السلوك الشائن أطراف أخرى، قد تكون من أفراد الأسرة والمقربين أو من المتعاملين معه من الخواص، الأمر الذي يعني أن الفساد قد تكون عوامله المحركة خارج إطار العمل وتنتمي لمجالات خارجة عنه. وهذا الإطار يشير الباحث السابق إلى أن الفساد ليس مرتبطاً بالضرورة بالوظيفة العامة أو المال العام، حيث يقول : «إنه على الرغم من أن كثيراً من الناس ينزعون إلى اعتبار الفساد خطيئة حكومية تمارس ضمن الوظيفة العامة، فإن الفساد موجود في القطاع الخاص أيضاً، بل إن القطاع الخاص متورط إلى حد كبير في معظم أشكال الفساد الحكومي. وأن أحد التعاريف الهامة الأخرى للفساد هو «استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة مثل الرشوة والابتزاز» وهما ينطويان بالضرورة - كما يرى - على مشاركة طرفين على الأقل قد يكون أحدهما منتمياً إلى القطاع الخاص، ويشمل أيضاً أنواعاً أخرى من ارتكاب الأعمال المحظورة التي يستطيع المسئول العمومي القيام بها بمفرده ومن بينها الاحتيال والاختلاس، وذلك عندما يقوم السياسيون والمسئولون بتخصيص الأصول العامة لاستخدام خاص واختلاس الأموال العامة ويكون لذلك آثار معاكسة واضحة ومباشرة على التنمية الاقتصادية لاتحتاج تبعاتها إلى مزيد مناقشة. ويشير «عبدالله بن حاسن الجابري» في دراسة له بعنوان : «الفساد الاقتصادي أنواعه. أسبابه. آثاره وعلاجه» إلى أن آراء المحللين تتفق على أن الفساد «وخصوصاً الممتد» ينشأ ويترعرع في المجتمعات التي تتصف بالآتي : نمو اقتصادي منخفض وغيرمنتظم، ضعف المجتمع المدني وسيادة السياسات القمعية، غياب الآليات والمؤسسات التي تتعامل مع الفساد. وهذه سمة عديدة من المجتمعات التي في طور التقدم، أو التي تشهد محاولات لإدخال مصفوفة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية كما هو الأمر في مجتمعنا اليمني الذي يعرف اتباع مثل تلك السياسات.. وعكس ذلك، تتميز المجتمعات الخالية من الفساد بالآتي: احترام الحريات المدنية، المحاسبة الحكومية، نطاق واسع من الفرص الاقتصادية المتاحة للأفراد، منافسة سياسية منتظمة هيكلياً ومؤسسياً،. وهو مايميز بصفة أساسية وليس كلياً الدول الغريبة المتقدمة. وهذا الرأي قد لايتفق مع الممارسات التي تعرفها بعض المجتمعات الغربية والدول المتقدمة التي تعرف اليوم مايسمى «بمأسسة الفساد»، حيث باتت الممارسات التي نعدها نحن ضمن منظومة الفساد : كالرشوة تقدم في إطار معترف به في كثير من الدول الغربية، واعترفت تلك الدول لجماعات الضغط «اللوبيات» بالحق في تقديم الهدايا والعطايا المالية دون ان تقع تحت طائلة القانون. وهذا يعني ان الفساد وإن اختلفت آلياته أو تغطى بأغطية جديدة يبقى في الأخير فساداً. وفي كل الأحوال فإن مكافحة الفساد لاسيما الفساد السياسي والإداري والمالي يستدعي بالضرورة توافر ثلاثة شروط هي : الشفافية في عمل الدولة ومؤسساتها، الحكم الرشيد، ويعني الحكمة في استخدام الموارد وحسن اختيار السياسات الاقتصادية، المساءلة القانونية للقائمين على إدارة شؤون الدولة، والمحاسبة الصارمة لمرتكبي الفساد. خلاصة القول : في مجتمعنا اليمني يمكن الإشارة إلى أن ظاهرة الفساد لم تعد مرتبطة بالجانب الحكومي والأعمال التي تمارس ضمن الوظيفة العامة لوحدها، بل إنها صارت ممارسة بشكل أكثر شيوعاً من قبل كثير من الأطراف منهم من ينتمي للقطاع الحكومي، وأغلبهم ينتمون للقطاع الخاص، بل قد لانتجاوز الحقيقة كثيراً إن أشرنا إلى ممارسة الفساد أو أحد مظاهره المتعددة صارت سلوكاً يومياً يمارسه الفرد دون أن يشعر بأنه قد تجاوز أو أخطأ أو ارتكب فعلاً شائناً. وربما صار الفعل الصواب هو الفعل المستهجن في كثير من المواقف والحالات. *جامعة إب