وهكذا تؤكد الهيئة الناخبة من خلال تفاعلها مع انتخابات ملء المقاعد الشاغرة في الدوائر الإحدى عشرة بأن الانتخابات من الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور ونظمها القانون والتي تؤكد أن الشعب هو المصدر الوحيد للسلطة والسيادة.. وليست قابلة للتأجيل تحت ضغوط التهديد بالمقاطعة الحزبية التي تربط ممارسة الحق بالحصول على صفقات ومكاسب سياسية لا تتفق مع ماهو نافذ من المرجعيات الدستورية والمنظومات القانونية. ومعنى ذلك أن الهيئة الناخبة في بلادنا قد باتت على قدر رفيع من الوعي الديمقراطي جعلها تدرك أين تكمن مصالحها الحيوية، وكيف تتعامل مع هذه المصالح؛ لأن الانسياق خلف الدعوات المشبوهة والتعامل معها بنوع من العواطف غير المدركة لما تنطوي عليه من المخاطر والسلبيات نوع من المقامرة والمغامرة غير المحسوبة التي لا ينتج عنها سوى ضياع ماهو مكتسب من الحقوق والحريات. والعودة اللامعقولة واللامقبولة إلى مربع الشمولية وما ينطوي عليه من قبول أعمت بالدكتاتورية باعتبارها البديل السلبي للديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية والسياسية والتداول السلمي للسلطة وحرية الصحافة وحقوق الإنسان. في وقت لم يكن فيه في الواقع ما يستوجب هذا النوع من الهروب من النقيض إلى النقيض ومن الأمام إلى الخلف ومن التقدم إلى التخلف ومن العلم إلى الجهل؛ لأن الثبات على الحق يستوجب الحفاظ على المكاسب وعدم التفريط بها في سباق الطموحات والأطماع اللامشروعة وما تستوجبه من الاستعجال والهرولة غير المحسوبة. أقول ذلك وأقصد به أن المقاطعة سلاح ضعيف لا يعتد به ولا يعتمد عليه في تحقيق مكاسب سياسية رخيصة مهما بدت مكلفة ومغرية للذين يفكرون بعواطفهم دون استخدام لما لديهم من العقول القادرة على الإدراك والتحليل والاستنتاج لما هو غائب من المعلومات والحقائق غير الواضحة؛ لأن العواطف التي تصور لنا المصلحة بنوع من التبسيط والانتهازية قد تفضي بنا إلى مواقف عدمية وعبثية السالبة أضرارها المادية والمعنوية أكثر مما تنطوي عليه من الفوائد الموجبة مهما تذرعت بالحرص على الإصلاح، إلا أنها أقرب الطرق المؤدية إلى الفساد والإفساد السياسي. ومعنى ذلك أن الذين يدعون الجماهير إلى مقاطعة العملية الانتخابية بذرائع مطلبية ذات ظاهر يتناقض مع الباطن كأن يقولوا إن الانتخابات وفقاً لما هو نافذ من المنظومة الدستورية والقانونية أقرب الطرق إلى الفشل في وقت يتعمدون فيه تجاهل مالديهم من الأخطاء وما يقترفونه من السلبيات.. هؤلاء الذين يعفون أنفسهم من القصور ومن المسئولية ويلقون باللائمة على الآخر لا يمكنهم أن يكتشفوا ما بأنفسهم من الطاقات ومن القدرات ولا يمكنهم أن يحسنوا استخدام مالديهم من الملكات والمواهب والطاقات المتاحة والممكنة؛ لأنهم يلقون عيوبهم وأخطاءهم ولا مبالاتهم على الآخر بسهولة أو باستخفاف يولد لديهم سلسلة من العجز الذي يحول بينهم وبين تحقيق ما لديهم من الأهداف، ويطلبون من الآخر تحريرهم من سلبياتهم العاجزة عن المبادرة في وقت يدركون فيه أن الشراكة تستوجب الاستعداد المسبق لتحمل المسئولية وما يترتب عليها من المشقات والصعوبات الموجبة لشحذ الهمم، فهم يكتفون فقط بإلقاء عيوبهم وسلبياتهم وضعفهم على الآخر الذي ينظرون له من زاوية الغيرة وعدم الاستعداد لتصويب ما لديهم من الخطاء والسلبيات. إن النظر إلى ما يحققه الآخر من النجاح والإيجابيات والانتصارات من زاوية مالديهم من عواطف ضاغطة على مالديهم من العقول الاتهامية لا يمكنهم أن يحولوا إيجابيات الآخر إلى سلبيات وسلبياتهم الكثيرة إلى إيجابيات تتفق مع مالديهم من الأطماع المجردة من القدرات الفاعلة؛ لأن ما يلقونه على الآخر من اتهامات كيدية تصف أعمالهم بالصواب المطلق وتصف أعماله بالفساد المطلق يختارون الهروب من المواجهة والمنافسة وما يترتب عليه من إضافة سلبيات إلى سلبياتهم، لأنهم يتركون للآخر مساحات مترامية للتفرد بالجماهير دون منافسة في وقت يكونون فيه قد عزلوا أنفسهم عن ساحة المشاركة تحت ضغط اللامبالاة،وعدم الاستعداد للمشاركة بما يعتقدون أنها منافسات مكلفة ومتعبة فتجدهم لذلك يعطون أنفسهم الحق في مطالبة الآخر بتقويتهم وتصويب ما يقترفونه من الحماقات والمواقف الخاطئة، أي تقويتهم مقابل إضعاف نفسه في وقت يدرك فيه أن الإضرار بنفسه عملية جنونية لا يمكنه الإقدام عليها حتى ولو كان من الملائكة، متجاهلين أنه من البشر وأن لديه مكونات مادية وعقلية وعاطفية واجتماعية لا تختلف عن مكوناتهم الذاتية، ولديه أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كما لديهم من الأهداف ولديه قدرة على المناورة والمجادلة لا تقل قدرة عنهم إذا لم تكن أكثر منها تجربة ويقظة حسابية للمستقبل. لذلك نجدهم يطالبونه من ساحة المعارضة بما لا يقدر على تقديمه من تنازلات من موقع الحكم؛ لأنه يدرك أن هدفهم وحساباتهم ترمي إلى الحلول محله ولكن من خلال الإفراط في التكتيك والتفريط في المناورة وما تنطوي عليه من حملات دعائية تتخذ من الحق ستاراً لتمرير ما لديها من الباطل وتتخذ من الضعف طاقات جدلية لتحقيق ما تتطلع إليه من القوة، ولكن بما تحققه من نجاح في إضعاف الآخر. لذلك نجدها تقنع نفسها أن سلاح المقاطعة سوف ينجح في تحويل ضعفها إلى قوة وقوة الآخر إلى ضعف.. أو قل بمعنى آخر في تحويل هزائمها إلى انتصارات وتحويل انتصاراته إلى هزائم.. مستفيدة مما يتظاهر به من الحرص على إعادتها إلى ساحة المشاركة ولو بتقديم قدر معقول ومقبول من التنازلات.. ولما لم يكن لأطماعها حدود ولا لطموحاتها قيود ومواقع قانونية وأخلاقية تجد نفسها غير قادرة على الاستمرار في لعبة الابتزاز مع ما يظهره من إصرار على التفرد في الساحة، ولكن استناداً إلى مبررات كافية من الدستور والقانون. أقول ذلك وأخلص بالقارئ إلى أن المقاطعة التي لوح بها المشترك ذات يوم وأسفرت عن تحقيق استجابة عاجلة للتمديد وتأجيل الانتخابات عامين إلى الأمام لتوفير الوقت الكافي للحوارات الهادفة إلى الإصلاحات على الصعيد العام للعملية الانتخابية النيابية وما تلاها من الإشكالات التي أضافت مشاكل إلى مشاكل ومعاناة إلى معاناة هي نفسها الدرس البليغ الذي جعل هذا السلاح السلبي عديم القدرة على التأثير في الانتخابات الجزئية أو انتخابات ملء المقاعد الشاغرة التي تطلق عليها المعارضة الانتخابات التكميلية في تسمية مختلفة تدل على عدم فهم في القانون وعدم حاجتها لقراءة نصوصه وقواعده المنظمة للعملية الانتخابية. فشل سلاح المقاطعة ونجح الحزب الحاكم مع انتصار محدود للمستقلين، ولم يحدث ما توعدت به المعارضة من التهديد والوعد والوعيد وتهديم الملعب الانتخابي، أي خرجت الهيئة الناخبة أو تمردت عن اللجوء إلى مثل هذه المواقف السلبية والاستجابة لها رافضة بشدة التعامل مع هذه الدعوات والدعايات الزائفة المنشغلة بالهدم لتقول رأيها في انتخاب من تجد به القدرة على تحمل المسئولية في مجلس النواب، مؤكدة للمعارضة أن المقاطعة بمثابة إلغاء لما لديها من الحقوق والحريات ولما لديها من الإرادة المستقلة لا تخدم قناعاتها المبدئية والتحررية الهادفة إلى «حكم الشعب نفسه بنفسه».