ماهي الهوية وهل نحن واعون بهويتنا؟ يقال إن الهوية هي الذاتية أو الخصوصية وهي جماع القيم والمثل والمبادئ التي تشكل الأساس الراسخ للشخصية الفردية أو الجماعية. وإذا كنا نمتلك هوية جماعية، فلماذا بقيت النزعة المناطقية والمذهبية تتوسع، حتى باتت تهدد الوحدة الوطنية؟ وهو سؤال يوجه لكل الأطراف السياسية: ماهو منطق هؤلاء الثقافي والاجتماعي؟ الجواب واسع ومعقد رغم ما يبدو من أنه بسيط، أو أن مثل هذا المنطق هو ببساطة وهم لا وجود له.. فلأول وهلة يبدو أن الجواب على هذا السؤال يظل ضامراً هزيلاً مهما اتسع، ولكن ما إن نمسك بعلامة من علامات وجوده حتى نكتشف أنه من الاتساع بحيث يملأ فضاء العلاقات الاجتماعية أو يتمدد أرضاً تحت أرضها.. فهو وجود متستر لا يكتفي بأنه غير معلن، بل يجاهر بعدم وجوده أصلاً، ولعل المبالغة في استنكار مثل هذا الوجود هي باب الشك بوجوده، فنحن دائماً نرفع شعار لا للمناطقية، لا للمذهبية. ومن هنا فإن الوقوف عند المظاهر الفوقية لا يظهر إلا الجزء المعلن من القشرة اليابسة من شدة ما صارت مألوفة، كالنظام السياسي والمحاصصة السياسية، وكل ما يمت إلى البنية السياسية المؤسسة للمناطقية وما يحيط بها من ممارسات تكاد لا تشي بالمناطقية الاجتماعية نظراً لاحتلالها حيزاً خاصاً وسياقاً مشروعاً هو السياق السياسي وحسب. ومن هنا فإن التصورات الاجتماعية للمناطقية تحدد السلوك بأكثر مما يفعل القانون أو يصوره النظام السياسي.. عندما تتجسد المحاصصة السياسية يبقى التفاهم عبارة عن حوار مواقع متهادنة، ولكن غير منزوعة السلاح «وليس المقصود بالسلاح هنا العيار الناري بل سلاح من عيار آخر، الشعور المناطقي» يسود بينهما السلم دون أن يختفي أفق الحرب، وتنشب فيها الحرب فلا تحجب أفق السلم.. من خلال هذا الحوار تظهر الهوية اليمنية «الوطنية» متراوحة بين الممكنة التحقيق وغير الممكنة، بين الاكتمال الوشيك والنقصان الدائم، يرافقها أحياناً بطء حق الدولة التي تنازلت عن العنف كحق شرعي لها وسمحت بممارسته من قبل الجماعات الأخرى. ومن الواضح أن أياً من الأحزاب السياسية أو الجماعات القبلية التي تداعت إلى عقد مجالس قبلية أو حتى مجالس حزبية لا تمتلك مشروع عمل لخلق الدولة الحديثة، وللأسف فإن الأحزاب السياسية سمحت بعودة طيف القبلية بألوانه المختلفة ليؤكد أن هذه الأحزاب لا تمتلك فكرة الدولة الحديثة «الديمقراطية العلمانية» مما يعني أن أمد الدولة التقليدية سوف يطول مهما حدثت من تغييرات داخل المنظومة السياسية. وهنا يواجهنا سؤال: ماالذي يجعل أو يسهل لبعض الأطراف استهداف الشباب وخاصة أولئك الذين ولدوا مع الوحدة وبعدها وتعريضهم لموجات استغلال سياسي وفكري تحت غطاء ديني مما يجعلهم وقوداً للأزمات التي تعصف بالوطن؟ إن ضعف الولاء الوطني ناتج عن التعبئة الخاطئة القائمة على أسس مناطقية ومذهبية فضلاً عن الاختلالات التي صاحبت ولاتزال النظام التعليمي والتي عبر عنها رئيس الجمهورية بقوله: لو كان هناك تعليم لما خضنا خمس مواجهات في صعدة. أستطيع القول إن الوضع السياسي والاجتماعي الذي استفاد من الانفتاح الذي أحدثته الوحدة على الأيديولوجيات أحدث إرباكاً بل ومضللاً في الهوية والقيم الوطنية، وأحيا الانفتاح على نزاعات الماضي سواء السياسي أو الاجتماعي، وأحياناً نزعات ونعرات وصراعات كانت مؤجلة إلى حين.. كما أن الأحزاب السياسية لعبت دوراً في تعبئة الناس تعبئة دينية خاطئة مما غيب تنمية القيم السلوكية العامرة بالفضيلة والمواطنة الصالحة، بل وتورطت في شحن الناس بقيم الإقصاء والتميز والتكفير والتنفير والتفرقة والعنف بدلاً من الإسهام في خلق الشخصية الوطنية المتزنة. والحكومة تتحمل جزءاً كبيراً من هذه المشكلة إذ أدارت ظهرها للحداثة وحاولت خلق توازنات تمجد الثقافة التقليدية المعادية للحداثة ولم تدرك خطورة تغييب الثقافة الحديثة، مما ساعد على إقصاء القانون والنظام وتشجيع المصالح الشخصية، بل إن الجهات المعنية ساهمت في تكريس الثنائيات في كل المؤسسات المهمة، مثل التربية والتعليم والجامعات، حيث نجد نقابتين داخل التربية واتحادين طلابيين وجامعات خاصة لا تلتزم بالمعايير العلمية ولا الوطنية وهي جامعات تهدد الأمن القومي على المدى القريب، وفي ظل مثل هذه الممارسات تبدو اليمن وكأنها ليست سوى مرتع للفساد ولأصحاب المشاريع التدميرية أعداء الحياة وصنّاع الموت. يمكن القول إن اليمن ليست أفغانستان أو الصومال من حيث الموقع والأهمية الاستراتيجية والثروات الطبيعية والبشرية، لكن ما حدث في هذين البلدين قابل للتكرار إذا استمرت الجامعات التي تشبه مدارس طالبان وإذا ما استمرت بعض الأطراف تبني معاهد تخرج الشباب المتطرف. والحقيقة أن الفساد ليس موضع نقاش أو خلاف بين كل اليمنيين سلطة ومعارضة، لكن الوفاق الوطني على مستقبل اليمن هو الغائب، فالمعارضة حتى الآن مازالت في حالة غيبوبة وكأنها لا تدرك أن الحروب الأهلية طاحونة الأوطان في كل زمان ومكان. ومن هنا نقول إن غياب مفهوم الولاء الوطني الصحيح مرده ضعف مفهوم الانتماء للوطن وسيادة الانتماءات الفئوية على المنطقة والقبيلة، أيضاً إن غياب الفهم الصحيح للدين والفقه والمذهب وللعلاقة مع الآخر أياً كان هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي ومناطقي، ويحول ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتعدد إلى عنف دموي يناقض جوهر الرسالات السماوية والحكمة أصلاً من وجودها على الأرض. ها نحن بعد 47 عاماً من الثورة وعشرين عاماً من الوحدة نقف وجهاً لوجه أمام الصراع القبلي والمناطقي، فنحن أمام صراع قبلي على مستوى أعلى يدور حول محور الاشتراك في الموقع والانتماء للجماعة عبر صراع تاريخي. إن أنواع الصراع تنعكس على الطريقة التي ننشئ فيها أطفالنا ونهيئهم للتعامل مع الصراع الاجتماعي في تجربتهم الحياتية نحن نحتاج إلى التنبيه إلى خطورة الوعي الزائف بالتاريخ وبالدين وأخطار التوهم وإيهام الناس بحقيقة مجتمعهم وحقائق التاريخ. إن الوعي الحقيقي بالدولة المدنية الحديثة بعيداً عن أوهام الدين والتاريخ هو الأمل الوحيد لإمكانية كسر الدائرة المغلقة التي يجسدها من يزعمون أنهم رجال دين أو مشايخ القبائل، خاصة وأن هؤلاء هم الذين وقفوا بعد الوحدة ضد قانون حمل السلاح ليحققوا مصالحهم الشخصية على حساب الوطن!؟