صحيح «إذا كانت فكرة الوحدة قد ولدت رسمياً في مطلع السبعينيات فإنها قد تحققت شعبياً منذ ثلاثة آلاف عام » كما قال اديبنا الكبير الراحل البردوني ، لكن الصحيح أيضاً ان الخطوات العملية لترجمة فكرة اعادة تحقيق وحدة اليمن ،لم تجد طريقها العملي الا في ظل الثورة اليمنية الخالدة (26سبتمبر و14اكتوبر) وفي كنف النظامين الوطنيين اللذين انبثقا عنها في شطري الوطن (سابقاً) وقادا المسار الوحدوي حتى التتويج في 22 مايو 1990م . هذا يقودنا الى التأكيد المبدئي بأن الهوية الوطنية هي القاسم المشترك لأبناء اليمن الواحد .. وأن الوحدة هي الحقيقة الموضوعية التي لا يمكن ان يستوي بدونها شأن الوطن أرضاً وانساناً ..وان مستوى الانتماءات السياسية والحزبية والفكرية في هذا الوطن مهما تعددت وتنوعت ومعها تتعدد وتتنوع الآراء والاجتهادات السياسية لحل القضايا ومواجهة التحديات ، فإنها لا ينبغي ان تقوم على الصراع التناحري بل على اساس الاختلاف الواعي في اطار منهجية حوارية تثري الوعي المجتمعي وتتخلق في بيئته الحلول والمعالجات والفهم الموضوعي للأوضاع الراهنة ..ذلك أن الوعي الوطني الوحدوي هو الوعاء الذي يجب ان تنصهر فيه هذه الانتماءات والتوجهات السياسية في توحدها واختلافها ..وفي التنسيق والتناسق بين كامل فعالياتها ..! وعلى هذا فالايمان بالوحدة كقضية مصيرية يجعلها في نظر الجميع مشروعاً وطنياً نهضوياً كبيراً يجب ان تسخَّر من اجله وفي خدمته كل القوى والأحزاب والفعاليات المختلفة وبرامجها وطروحاتها وجهودها وحتى تضحياتها وتنازلاتها بالانطلاق من ارضية الإحاطة والإلمام والفهم للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما يطرحها الواقع الوطني..ومن ثم الاضطلاع بالمسؤولية تجاهها من كل إنسان حسب قدرته وثقله وحضوره ولكل حسب ثمار عطائه ونتائج أعماله .. وذلك هو اول الرهان.. ولكن ما أهمية هذه الحقيقة من طرح المسألة المصيرية الآن..؟! اعتقد ان الفكر السياسي الوطني الراهن يخلو من الفرضيات التي تقول: إن غموض ملابسات القضايا الشائكة يعود الى الخطأ او الفشل الفادح في الاستقراء الصحيح لحركية الواقع ومعطياته وافرازاته وتعقيداته فضلاً عن عدم التوازن والضبابية في تشخيص اوضاع المرحلة وتداعياتها وتحدياتها بأبعادها الوطنية والاقليمية والدولية..وهذا في اعتقادي من اكبر موانع وضع العقل واليد معاً على الحلول والمعالجات وكذا استنباط الصيغ والآليات للمهام والاهداف الرئيسية وأولوياتها في العمل السياسي الوطني المطلوب اليوم.. اذن يبقى الحوار هو الجوهر الأعمق في سياق المواجهة مع هذه التحديات وبالتالي هو الجوهر الأكثر عمقاً للوحدة لأنها وجود ..ولأن الحوار يجمع كل اطراف النسيج الواحد على تباعدها واختلافها ..! وكنا نأمل وما نزال ان تتعاطى جميع القوى والأطراف السياسية الفاعلة على الساحة الوطنية مع مسألة الحوار بكثير من المسؤولية وان تستند في كل طروحاتها الى القناعة والإيمان بقيم الحوار واحترام التعدد في الأفكار والرؤى والاعتدال في التعبير عن المواقف والمطالب بما يعطي لحق الاختلاف مضمونة الإيجابي البنّاء الذي يقي الوطن والناس الفتنة والصراعات المدمرة وينمي بالتالي التنوع والتعدد السليم وعقلانية الجدل وفاعلية الرأي وإثراء الحياة السياسية والفكرية ويمدها بالخصوبة والغزارة. ولئن كانت العثرات والعقبات بل والانهيارات التي احاقت بالوطن سنوات عجافاً هي بسبب انسداد افق الحوار وبسببه ساد التخبط السياسي العقيم الذي عمق من الفراغ الروحي والاخلاقي ووسع من الشروخ داخل النسيج الوطني فإن الحوار اليوم هو من يمثل انبعاثاً متجدداً لشمولية المفهوم القيمي للوحدة والتنمية السياسية وعلاقتها التعاقدية والترابطية مع مفاهيم الاستقرار والسلام الاجتماعي .! وهو من يجمع لنا ما تفرق ويقرب ما تباعد وتستحضر معه عناصر التآلف والتواصل وروح الحياة وديناميكيتها في مساحة الجمود الفاصلة بين القوى السياسية على الساحة ..حيث الماء الجاري اعذب من الماء الراكد ..والكائن المتحرك - بالمنطق الفلسفي- أكثر تأثيراً وفاعلية من الكائن المتجمد ..لذلك علينا ان نفهم بأن تأصيل نهج الحوار وتجسيد ثقافته والأخذ به خياراً ووسيلة يعد عملاً معاصراً يؤسس لمداميك البناء الوطني المتماسك بتجانس وتكامل رؤى وجهود مختلف ألوان الطيف السياسي.. نقول هذا ونحن نأمل وما نزال أن يتقدم الجميع خطوات نحو طاولة الحوار وأن يقدم تنازلات من اجل الوطن فالحكمة والعقل يقتضيان اليوم من جميع الأطراف إعلاء مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات ..فلايجوز لأحزاب «المشترك» ان تترنح متقوقعة عند مطالب قد تكون سبباً لتعثر الحوار ..كما لا يجوز للحاكم ان يتمسك بطروحاته ومطالبه حد الجمود بما يسهم في فشل الحوار لا قدره الله ..حيث الجميع الآن امام التحدي الأكبر والمسؤولية الكبرى للسير بالوطن الى الفضاء الأرحب بعيداً عن المآزق والأزمات. وينبغي ألاّ نقف عند مسألة «الحوار أولاً أم قضايا وشروط الحوار» ،لأن هذا سيدخل الجميع في دوامة بلا حدود ويضعهم في حالة جدل بيزنطي كالجدل في مسألة : ايهما اولاً الدجاجة ام البيضة.؟ كما ان التمادي والإيغال في هذه الدوامة هي من تفرز الاحكام المسبقة واللامنطقية والمواقف المتذبذبة تجاه القضايا محل الحوار ..لذلك يظل - والحال هكذا- الاستعداد لخوض الحوار والقبول به اولاً هو الأصل بينما القضايا المطلوب نقاشها ووضعها على مائدة الحوار تأتي فيما بعد لأنه لو تم الاتفاق حول هذه الأخيرة نكون قد اتفقنا ولم يعد هناك خلاف لنتحاور بل اننا نكون قد افرغنا الحوار من مضمونه الحقيقي والأهداف الوطنية النبيلة الداعية إليه . ياسادة - لماذا المكابرة مادام الجميع على سفينة واحدة.. ومادامت الأخطار تحيق بالجميع ..ومادام واقع الحال يقتضي مزيداً من تقديم التنازلات ..ويقتضي التسليم بالطابع الجدلي للحياة والمجتمع في جمعهما - الوحدة والتنوع ..الاتفاق والاختلاف.. في نسيج وحدوي لا يستقيم أبداً إلا بروحية الحوار ، ذلك ان الوطن الواحد لا يلغي التعددية او التنوع الذي تثيرها بالحوار وتكسبها اكثر من رافعة للتقدم والتطور .. وفي جوهر هذه البدهيات يمثل الحوار صمام امان الوطن الموحد.. وهذا هو اساس جدلية الوحدة والحوار في ديالكتيك التعددية بأنماطها المختلفة.