“بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرّم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا .. وليكن مغضوباً وملعوناً، نهاراً وليلاً ، وفي نومه وصبحه، ملعوناً في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله ألاّ يشمله بعفوه أبداً، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائماً .. ونسأل الله أن يخلص أولي الطاعة منكم وينقذهم، وألاّ يتحدث معه أحداً بكلمة، أو يتصل به كتابة، وألاّ يقدم له أحد مساعدة أو معروفا، وألاّ يعيش معه أحد تحت سقف واحدة، وألاّ يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع، وألاّ يقرأ أحد شيئاً جرى به قلمه أو أملاه لسانه” نص اللعنة هذا لم يصب على رأس شقي، بل على فيلسوف يعتبر من أعمدة التنوير العقلاني في القرن السابع عشر، الذي تعتبر كتاباته التي لم تتجاوز أربعة كتب، أحد المحطات العقلية الرئيسية، في رحلة اكتشاف مسيرة العقل الإنساني، ومغامراته العقلية الضخمة لاختراق المجهول في فضاءات معرفية شتى. وفي عام 399 قبل الميلاد تم تقديم رجل عجوز يناهز السبعين عاماً، الى المحكمة في أثينا بتهمتي الهرطقة وإفساد الشبيبة، وتم الحكم عليه بالإعدام من أجل آرائه، بجرعة سم الشوكران. كان هذا المجرم (سقراط) واستقبل الموت وتجرّع السم وهو يشرح أفكاره لطلابه المتحلّقين حوله حتى اللحظة الأخيرة، وهم يحبسون دموعهم وزفراتهم، في مشهد تناقض كوني من هذا الحجم!. والتهمة الخطيرة التي وجهت لسقراط، اعتبرت جريمة في نظر المجتمع الأثيني، فصوت بالأكثرية لإعدام ألمع دماغ في المجتمع. وهذا يحكي بؤس الديمقراطية أحياناً، إذا أصبحت في يد الغوغاء، ولو اعتمد نظام التصويت في العالم العربي فمن سيفوز في مقاعد مجالس القرود عفوا مجالس الشعب هم الغوغاء، وبذلك تحكمنا ليس الديمقراطية بل الموبائية (من الموب MOB) .. أي حكم القطيع . إن سقراط كان يرى أن هناك شيئاً واحداً فقط يمكن التأكد منه هو: جهله؛ لأن من يعرف أنه لا يعرف، يكون قد وضع رجله في أول طريق المعرفة، لتصحيح ما عنده، والاستزادة المعرفية مما ليس عنده، في كون يعج بالمعرفة، ووجود لانهائي يستحيل على النضوب المعرفي. وفيها حرَّر مبدأه الأخلاقي، الذي استفادت منه مدارس شتى في التاريخ في تأسيس العلاقات الإنسانية، بعدم مكافحة الشر بالشر، كما جاء في الإنجيل والقرآن والزبور.. الحق أقول لكم لا تقاوموا الشر وادفعوا بالتي هي أحسن. وأنه خير لنا أن نتحمل الظلم من أن نمارسه، وأن التغيير الاجتماعي ينطلق من ممارسة الواجب، أكثر من المطالبة بالحقوق، وأن الالتزام الأخلاقي هو الناظم المحوري في الحركة الاجتماعية، وأن البحث عن الحقيقة يجب أن يشكل نهم الانسان الأول، بغض النظر عن الجانب النفعي فيه، في تشكيل عقل نقدي لا يعرف التقاعد أو الاستقالة، في رحلة الكشف عن الحقيقة ..... هذه هي أفكار الرجل الخطيرة التي بموجبها أعدمته أثينا في أكبر حماقة تاريخية. أما قرار لعنة سبينوزا فكان في منتصف القرن السابع عشر للميلاد، ولكن قراراً مشابهاً صدر في حق دماغ إسلامي متألق، هو ابن رشد، في نهاية القرن الثاني عشر للميلاد، ولم تشفع له شيخوخته أن يلقى تحت الإقامة الجبرية، منفياً في قرية الليسانة اليهودية، ليموت بعدها حزيناً كسير القلب، لا يستفيد منه العالم الإسلامي حتى هذه اللحظة، فهو مازال على القائمة السوداء، مطلوب رأسه للعدالة بدون عدالة. وتم تدشين الأيام الأولى من عام 1600 ميلادي بحريق مروع ارتجفت منه مفاصل المفكرين في أوروبا، عندما أُحْرِق المفكر الإيطالي ( جيوردانو برونو) حياً في ساحة عامة. ومرت الأيام وتتالت القرون فتم رد الاعتبار لسبينوزا، ونحت تمثال لسقراط يحدق بوداعة في حماقة التاريخ، واحتفل بذكرى ابن رشد في قرطبة على يد الأسبان؟ ونصب تمثال تذكاري لجيوردانو برونو فيلسوف حرية الرأي، في نفس الساحة التي شوي فيها حياً، (بلاثا دي لا فويرا)؟ فهذه أربعة أمثلة لأربعة مفكرين و من أربعة أديان. في نظم تاريخي ينبض بنفس الوتيرة، ويلاقي نفس المصير، بحماقة بشرية لا تعرف الحدود، ومتى كان للحماقة دواء.