تواجه المسألة السودانية منعطفاً جديداً يمثل ذروة التراجيديا التاريخية المعاصرة التي نجمت عن سلسلة من الأخطاء القاتلة لفرقاء الساحة من النخب السياسية, وتوزعت الأخطاء بين السلطة والمعارضة, وبطريقة أفضت إلى واقع الحال الماثل, حيث يتأهب الجنوب للاستفتاء الذي قد يسفر عنه انفصال ملغوم بصراعات دموية قادمة, وعلى خط دارفور تجري مفاوضات ماراثونية في الدوحة أشبه بتلك المفاوضات العقيمة التي جرت غير مرة بين فرقاء الساحة الصومالية من المتقاتلين القبائليين المتدثرين بأردية مختلفة, والشاهد مفاوضات فرقاء الصومال التي تنقلت من صنعاء لنيروبي وأديس وجيبوتي, لكنها أسفرت في نهاية المطاف عن النتائج التي كانت ومازالت تعيد إنتاج نفسها بكفاءة التدمير والتعصب وعدمية الرؤية. لا نتمنى أن يجري الأمر على هذا المنوال في السودان, والرهان قائم على الحنكة السودانية وخبرة العمل السياسي المديدة, غير أن المشكلة الجوهرية تكمن في تدابير الداخل السوداني التي تمثل ركيزة أساسية لتمهيد الطريق أمام المفاوضات المثمرة. نعرف جميعاً أن المتحاورين على خط دارفور يتوزوعون في منطلقاتهم ويعانون من وجود أمراء حرب حقيقيين بينهم سواء تدثروا برداء السلطة أو المعارضة, وهنا تكمن المشكلة التي قلنا بأنها مشابه تفاوضي للمشكلة الصومالية, فالوجود الناجز لتجار الحرب والسلاح والدماء لا يمكنه أن يوفر المناخ المناسب للتسوية, ولهذا السبب تظل الأمور معلقة في إطار الرغبات والأماني التي تصل إلى مستوى تحقيق المعجزات. على خط متصل تجري تدابير مريبة على درب التسوية الشمالية الجنوبية المفروشة بمقدمات اتفاقية (نيفاشا) الشهيرة، تلك الاتفاقية التي فتحت الباب لمتوالية الخرائب اللاحقة لسبب بسيط يتمثل في كونها أعطت للجنوب مالم تعطه لبقية الأقاليم السودانية, ووفرت شبه نظام كونفدرالي غير مشرعن على خط الجنوب, فيما أبقت بقية الأقاليم تحت قبضة الخرطوم, مع استطراد وافر على المركزية الشديدة التي لم تنحل برغم نظام الولايات المهلهل, وهو الأمر الذي أفضى وبحكم طبائع الأشياء إلى تفجرات دارفور, وتململات شرق السودان والنوبة وجبال الأنغسنا مما لا يتسع المقال لتفصيله هنا. نيفاشا بدت مراوغة ومخاتلة بامتياز, لأنها استبدلت الأدنى بما هو أعلى, فبدلاً من أن يصار إلى تحديد معالم دولة اتحادية فدرالية تنصف الجميع مع مراعاة الخصوصية, كحال دول العالم الاتحادية ذات الخصوصية المحلية.. بدلاً من ذلك اعتبرت النخب الحاكمة التخلص من منغصة الجنوب وحربه مناسبة للاسترخاء وحكم الشمال دون قلق, وقد كان الوهم أول شاهد على هذا التفكير, ولعل الراحل الكبير جون قرنق كان أكثر الناس إدراكاً لهذه المتاهة, وهو الذي ظل ممسكاً بجمرة المشروع الاتحادي, مكرراً دوماً بأن الهدف المثالي هو سودان جديد موحد ومتنوع, وليس انفصال الجنوب عن الشمال. الخارطة السياسية السودانية تزداد تضبباً, والأيام القادمة ستقدم النتائج التي تليق بكل الأخطاء والخطايا التي تمددت بقوة بؤسها ومناكفتها لعبقرية السودان الكبير.