يصدر الألف من «جوف الفؤاد» كما يقول أسلافنا، والباء يصدر عن ارتطام بين الشفتين، وهكذا سنجد أن كل حرف صادر عن الإنسان له علاقة بجوانياته وتشريح جسمه.. يتساوى في الأمر كل البشرية، والشاهد أن طفولة البشرية الأولى تُرينا هذه المعاني، ولعل مرئيات «داروين» حول نظريته في النشوء والارتقاء تؤشر إلى البُعد البيولوجي في تطور الكائن الحي مما لا يُلغي البُعد اللساني والنفسي والعقلي بل يكمله، ذلك أن مرئيات داروين ليست مفارقة لنظرية المشيئة الإلهية كما يعتقد البعض، بل إن معايناته الميدانية وتطوافه الدهري في أزمنة النشوء والارتقاء تأكيد آخر على ما ورد في الكتب السماوية مما يضعنا أمام حيرة حقيقية فيما يذهب إليه البعض في تقييمهم لداروين، والحاصل أن داروين كغيره من علماء البرهان العقلي الرياضي الجبري استبعد الميتافيزيقا «إجرائياً» ، لكنه لم يقوَ على الإتيان بما يفارق صريح المنطوق الكلامي في الكتب السماوية، فوحيدة الخلية «الأمبيبا» يُجيرها على شكل الحياة الأولى، والمعروف أن هذه «الأمبيبا» تعيش في المياه السبخة الراكدة، وأن بداية حراكها الحيوي يترافق مع مشروع انقسام ثنائي بسيط يأتي استتباعاً لثنائية حاضنة.. النواة «بروتوبلازم» ، والسائل المحيط بها «سيتوبلازم» ، وهذه لطيفة أُخرى من لطائف الثنائيات الحاسمة في التزاوج، فالانقسام، والتعقيد المتتالي، وصولاً إلى نبض الحياة . أوردتُ هذه العوابر والخواطر حول داروين لاستطرد على فكرة نشوء اللغة التي أساسها الصوت وترجمانها الحرف، فاللغة بحسب بعض علماء اللسانيات هبة من الخالق، وهذا وارد في القرآن الكريم .. قال تعالى : «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة»، وسنرى أن هذا التعليم الإلهي لآدم عليه السلام ترميز إلى التعليم الإلهي للإنسان..سليل آدم، واللغة هنا حجة الحق في تمييز آدم على غيره من مخلوقاته، وهو الأمر الذي جعل الملائكة يسجدون لآدم إلا إبليس الذي أبى واستكبر . من هنا سنعلم يقيناً أن طاقة الحرف مجيرة أساساً على تلك المنحة الإلهية التي تقرن الحرف بأصله، وإذا تتبعنا مسار الحرف وخلعناه «إجرائياً» من مصدره الأول سنرى أن هذا الحرف يحمل في دواخله قيماً صوتية وهندسية ورياضية خوارزمية، والدليل أن الحرف المكتوب لا يخرج من القياس والتآلف النبيل مع مصدره الأول، ولهذا يُكتب الألف بوصفه محلاً هندسياً لنقطة تحركت في بياض الصفحة، تماماً كالصوت الممتد الصادر من «جوف الفؤاد»، وسنرى أن متتالية الألف تكمن في بقية الحروف، فالباء بحسب رسالة العدد في «إخوان الصفا وخلان الوفا» ليس إلا ألفاً تموضع على الأرض فيما اكتسى عمودين مًتناظرين دون أن يفارق طول الألف، وهكذا يمكن البحث في هيئات الحروف العربية المختلفة استناداً إلى مقام الألف الذي يقوم بدور مفتاح «صول» الموسيقي . هذه الطاقة الهندسية للحروف تستطرد على مقدماتها الصوتية، فالطاقة الصوتية للحرف الواحد يتدرج بتدرج النطق علواً وهبوطاً، وسنرى أن الكلمة يمكنها أن تكون وعداً أو وعيداً استناداً إلى نبرة الصوت وطريقة التعبير، غير أن العلو والهبوط يتداعى مع الجملة الكاملة والكلام المُرسل مما يمكن تشبيهه بالقوالب المُدوْزنة المحكومة بخوارزميات موسيقية أكيدة، والشاهد أن الكلام المنطوق يمر عبر نفق صوتي تتناوب فيه السواكن مع المتحركات وبطريقة رياضية جبرية، ولهذا السبب وكما أسلفنا اكتشف الخليل بن احمد الفراهيدي الجوهر الموسيقي في الشعر من خلال تناوب الحركة والسكون المُجيّرة على التفعيلات، وما كان للخليل أن يكتشف هذه الحقيقة دون استخدام الموسيقى المجردة مما هو مسطور في كتب التاريخ . مقطع القول أن الشعر يستمد قوالبه وموسيقاه وعناصر تكوينه وتطوره من موسيقى الوجود المترامية في ظواهر الكون مما تعكسه اللغة بوصفها منّة إلهية مودعة في الكون وأسراره، وإذا ما وصلنا إلى هذا اليقين فإننا سنجد الجدل القائم حول شعرية الشعر وأنواعه وتضاريسه جدلاً حول حقيقة واحدة لقوالب متعددة. يقول محيي الدين بن عربي: رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرق ولو لاح غربياً لحنّ إلى الغرب وإن غرامي بالبروق ولوحها وليس غرامي بالأماكن والترب روته الصبا عنهم حديثاً مُعنْعناً عن البث عن وجدي عن الشوق عن كرب