للهوامش سطوة على المتن، فهي القادرة على الإيضاح والإضاءة للمعتم، والذاهبة إلى التحديد وإثبات الحق والمرجع، فيصبح العودة إليها وقراءتها ضرورة من ضرورات إدراك المتن وإكمال صورته، من هنا جاءت هذه الهوامش التي نحررها على دفتر الفن لنضع علامات هامسة لمن يريد أن يكمل وجه الحقيقة الفنية اليوم، فإن وجدت فيها ما تبتغيه، وإلا فدعها، فلست المعني بهذه الهوامش الهوامس. مسرّة المصطفى: في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة الفرق الإنشادية في الوطن العربي بعمومه، وبدأت هذه الظاهرة تكتسب أرضاً كبيرة في فضاء الغناء العربي المعاصر، مستفيدة من التراجع المخيف الذي سقطت فيه الأغنية العربية الطربية السماعية التي كانت سائدة ومهيمنة منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي حتى مطلع الثمانينيات منه، وإن كنا في هذه الهوامش لا نتغياً الحديث عن ظهور وتطور هذه الظاهرة لنقف عندها في سانحة أخرى، إذ سنعمد في هوامشنا إلى تأمل مسيرة الفن لفرقة المسرّة التابعة لدار المصطفى بمدينة تريم حضرموت، في خطوة تهدف إلى توجيه مسار الإنشاد الإسلامي الهادف والارتقاء به بما يتناسب مع الجيل المعاصر بأعلى معايير الإبداع والإتقان المتاحة، كما جاء في رسالة التأسيس لهذه الفرقة قبل ستة عشرة عاماً، تحت إشراف السيد محمد حداد الكاف، لتنطلق هذه الكوكبة الرائعة من الفتية الصغيرة عمراً الكبيرة عطاءً وفناً ورقياً وأداءً رائقاً. المسرّة في مساء تريمي من جميل الفرص أن سنحت لي رحلة فريق اللجنة العلمية لملتقى تريم الثقافي، احتفاء بها عاصمة للثقافة الإسلامية 2010م، لحضور فعاليتي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي الإعلامي والباحث السعودي بقاعة المحاضرات بكلية تربية سيؤون وقاعة الوفاق بتريم عن التأثير الثقافي المتبادل بين حضرموت وبلاد الحرمين الشريفين، التي كان على هامشها أمسية فنية بقصر السيد حسين الكاف أحيتها فرقة المسرّة للإنشاد، هذه الفرصة وضعتني في مواجهة مباشرة مع أصوات هذه الكوكبة النيرة من فتيان تريم الغنّاء، الذين أكدوا سيرهم الوئيد على خطى الأجداد وحملة رسالة الفن الهادف وتأصيله وفق رؤية منفتحة على فضاء الفنون عامة وغناء السماع خاصة. إن المتأمل في الأداء الصوتي لمنشدي الفرقة الرئيسيين المبدعين، عمر عيدروس بن شهاب، وعلي سليمان، ماجد الجبري، وسالمين عبيد، يلمح تماهياً بين نبرات هذه التوليفة الشبابية في تجسيد الكلمة المعبرة وتكثيف إيحاءاتها وترميزها الصوفي وحمولاتها الذاهبة إلى الكشف عن مكنونات الروح الشفيفة وهيامها في الفضاء الكوني ورغبتها في الالتحام بالعشق الإلهي الخالد، هذه الأصوات وهي تتنفس هذا العبق الشعري والرقي الفني تتمايز فيما بينها البين من خلال المساحات الصوتية التي يمتلكها كل واحد منهم، فحين يدنو الرائع علي سليمان من رائعة رائد الدان الحضرمي – شعراً ولحنا – حداد بن حسن الكاف التي مطلعها: خرج فصل طاب الأنس في دار أبو علوي ويا ليلة الله أرحمونا ضيف يا أهل الكرم والجود هذه الرائعة الحدادية التي جاءت مفتتحاً لأمسية إنشادية تريمية ليبث مسرّة حميمية في دواخل الحاضرين ضيوفاً وقارين جميعاً، مرسلةً هذه الرائعة حبورها الأليف إلى أرجاء المكان، ليدهشنا بعده صوت المبدع عمر شُبّابة الوادي يؤلف نسيجه الخاص، ويذكّر كل من له قلب ذاكر، ببدايات الفتى أبوبكر سالم بلفقيه، وقد همست لهذا الفنان الرائع بما يشي بقدومه بقوة إلى ساحة الغناء الراقي إن رغب في خوض تجربة رائده بلفقيه، وقد أمتعنا بجديد الدكتور عمر بن علوي بن شهاب عن تريم المكان وسمر الذي زان، ومن ألحان الفنان المخضرم الكبير حسن صالح باحشوان، ليختم برائعة السيدة خديجة بنت علي الحبشي التي مطلعها: سحاب الخير متنوي جمال القافلة يازين ويتغنى المنشد ذو الصوت الرخيم ماجد برائعة سمركم زان ويتبعه المنشد المجيد سالمين برائعة: يقول الولع بحظه ونصيبه، هذه الوصلات الإنشادية التي شنفت آذاننا بجميل الكلم ورقيق النغم كانت تؤشر إلى قدرة هذه الفرقة المتميزة على تقديم تراثها الغنائي السماعي (الدان) في ملمحه الصوفي وتوكيد خصوصيته التي يمتحها من عبق ذلك التراث الذي تركه الأجداد لهؤلاء الأحفاد فما ضيعوه ولا شوهوه، بل نجحوا في إعادته بقوة حضور وألق ينظر إلى الأفق البعيد في أرجاء المعمورة ليوصل صدى صوت الدان بحنو وعذب شدو. وإذا كان لنا من كلمة في خاتمة هوامشنا فهي في تمنينا على القائمين على أمر هذه الفرقة الرائعة بضرورة الحرص على التعريف بأعلام هذا التراث الغنائي ورواده من خلال تقديمهم لهذه الوصلات في المحافل والمهرجانات المحلية والإقليمية والدولية، فهم ميكنة إعلامية قوية التأثير سريعة التوصيل في زمن الميديا الكونية وجهازها الفتاك التلفزيون. فشكراً لعمر وصحبه المنشدين فرادى ومجموعة فقد صفيت آذاننا في ليلتنا التريمية من غثاء وضجيج وصخب الملتحف خطأ بالغناء وهو إلى أنكر الأصوات أقرب وأنكى. وكفى!.