الأزمة الاقتصادية العالمية فضحت تلك التنظيرات التي كانت دوماً تنتقد تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، وإمساكها بميزان المصلحة الوطنية العليا، فقد دأب منظرو رأسمالية ما بعد الحرب الباردة على اعتماد الموديل المُتفلّت الذي يسمح بالتنمية من أجل النماء المالي الصرف، وتسجيل مُستندات محاسبية تؤشر إلى أرباح البنوك وشركات التمويل دون أن تضع في الاعتبار بأن النمو إن لم يستند على قاعدة من الاستدامة وإعادة إنتاج القيم المادية والروحية فإنه يتحول إلى سرطان قاتل. هذا ما حصل بالضبط في الولاياتالمتحدة على عهد جورج بوش الابن، فقد اندفعت الطُغم المالية وعاثت فساداً في شارع المال الشهير “ وول ستريت “، المعبر عن مركزية البورصة المالية الدولية، فيما تدافعت بنوك الإقراض لتسجيل مؤشرات مالية وأرباح وهمية دون أن تحتسب لما بعد التمويل وتنفيذ المشاريع، ولهذا السبب وجد خمسون مليون أمريكي أنفسهم مكشوفين ومطاردين من قبل بنوك الإقراض، فيما وجدت الشركات المنفذة لتلك المشاريع نفسها مكشوفة، وغير قادرة على جني الأرباح التي توهًّمتها، بل وحتى استعادة ما صرفته من مبالغ!! . في اليونان المجاورة لتركيا والتي كانت تقليدياً أكثر تطوراً ونماءً من تركيا بدت كآبة المنظر وسوء المنقلب، ففي الوقت الذي سجّلت فيه تركيا مؤشرات نمو صاعد، وتوازن داخلي لصالح الغالبية العظمى من الناس، تجد اليونان نفسها مطالبة باستحقاقات باهضة، فالبنك الدولي الذي يعدها بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي لتأمين ثلاثين مليار يورو لكي يستعيد الاقتصاد اليوناني عافيته يطالب مُسبقاً ومعه دول الاتحاد الأوروبي بأن تكون اليونان قادرة في المستقبل القريب على إعادة ما يتجاوز هذا المبلغ ويصل إلى خمسين مليار يورو حتى تكون شريكة مقبولة في إطار ما يسمى بمنظومة الوحدة النقدية الأوروبية “ الاورو”. وإلى ذلك تترشح كل من إسبانيا والبرتغال لذات المتاهة اليونانية في تأكيد متجدد على فشل نظام اقتصاد السوق المُتفلّت، وغير المنضبط، والذي تراجعت فيه مكانة الدولة ودروها الإشرافي على الاقتصاد الكُلّي للأوطان، مقابل استشراء الفساد المخملي، ومركزية سدنة المال السهل. مقابل هذه الصورة الصاعقة للتردي في بعض الدول التي كانت تُشكّل رافعة نجاح وازدهار سنجد صورة مغايرة في كل من الصينوروسياوماليزيا، وليس من سبب لتفسير الازدهار الصيني الهائل، والضبط الاقتصادي الروسي، والنماء الماليزي سوى دور الدولة المركزي في ضبط معايير النمو وانسيابات المال العام، بتحديد الأولويات بما يتناسب مع المصلحة العليا. في الصين بلغ النمو على مدى عقود ثلاثة 14 في المائة، غير أن الدولة الصينية لجأت إلى كبح النمو المفرط خدمة للاقتصاد الدولي، وأوقفت المؤشر بقرار سياسي عند حدود 8 في المائة !!، وفي روسيا تراجع التضخم ومعدلات البطالة وبلغ النمو الصناعي خلال العالم الجاري 7 في المائة، فيما تنامت مداخيل الأفراد بنسبة 8 في المائة، وعلى خط متصل كانت ماليزيا ومازالت ضمن الاقتصاديات المتوازنة النامية، ذلك أن ماليزيا لم تنجرف مع بورصات النقد الدولي النابعة من مرئيات صندوق النقد وشارع المال بنيويورك، بل لجأت إلى حماية عملتها المحلية من خلال جملة من التدابير الإدارية والمالية والاستثمارية، فظل اقتصادها شامخاً، ومجتمعها سليماً معافى من الأنواء. التجربة الماثلة عالمياً تدلل مرة أُخرى على أن حضور الدولة في الاقتصاد الوطني أمر لا مفر منه. ولقد كانت الرأسمالية الرشيدة واعية لهذه المسألة يوم أن كان اليمين المتهور خابياً، وكان تدخل الدولة للصالح العام من أوجب واجبات حكومات يمين الوسط ويسار الوسط، غير أن تغوُّل يمين ال« وول استريت » ومن يحيط بهم من الأوليغاركيا المالية المتعطشة، وما تبع ذلك من سياسات العسكرة الكونية والمبادآت الحربية الشاملة .. كل تلك السياسات أفضت إلى ما يشهده العالم من أزمة. حقا إنها أزمة، ولكنها في جزء من العالم وليست كل العالم، فالأزمة المالية الطاحنة في الولاياتالمتحدةالأمريكية يقابلها معافاة شاملة في الصين، والحروب التراجيدية في غير مكان من عالم ما بعد الحرب الباردة يقابلها سلم واستقرار في أماكن أُخرى من العالم .