الجسد الآدمي ليس نابعاً مما نراه عياناً فقط، بل مما لا نراه، فالمرئي عرضي والجوهر مستتر، وآية ذلك أن هذا الجسد يختزل في داخله عوالم نفسية وشعورية وبيانية أشمل من المرئي المباشر، فالإنسان الذي يمارس الغرائز، العاقلة منها والمتفلتة هو ذاته السامع والمبصر والمتخيل والنائم واليقضان والمتكلم. إنه عالم بكامله .. يقول الشاعر: وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر وفي رسالة الإمام العلامة محمد بن محمد حامد الغزالي بعنوان «كيمياء السعادة»وصف لمّاح لماهية الروح والجسد، وكيف أن أعضاء الجسد تلخّص أبعاداً روحية ونفسية تتجاوز حدود العضو إلى عوالم أخرى أبعد مدىً وأكثر غوراً. وهذا ما يمكن استنتاجه أيضاً من كتاب «الروح» لابن القيم الجوزية . الإشارة هنا أن هذا الإنسان ليس إلا ترميزاً مُكثّفاً لكل عوامل الطبيعة المرئية ، وما يتجاوزها الى الغيوب غير المرئية، وهو هنا بمثابة المعادل المطلق للنواميس. إنه أمر إلهي مشمول بكل تضمينات الوجود الموجود والوجود الممكن بحسب لغة الفلاسفة. العلماء الذين يتنكبون مشقة البحث في ظواهر الطبيعة وتحولاتها وخوارقها يصلون إلى قناعات إيمانية مؤكدة .. ذلك أنهم فيما يبحثون وهم يتأسّون بالمنطق العقلي البرهاني، والعلوم التجريبية الموصولة بالظاهر، يجدون أنفسهم وقد تاخموا الغيب وانبجست أمامهم شواهد ومدهشات ما كان لها أن تنبجس لولا مشقة العناء العلمي، والبحث العقلي، والكشف البرهاني . إن سير العلماء الأفذاذ تأكيد على الميتافيزيقيا لا العكس كما يتوهم الجاهلون، وما أنجزه العلماء سالفاً عن سالف تأكيد للمشيئة، والجبر السابق على الفعل، لا العكس. ينطبق الأمر على «مندليف» صاحب الجدول الدوري للعناصر .. كما على «داروين» صاحب نظرية أصل الأنواع. يجتهد الواحد منهم بحسب همته، ولا يدّعي أنه يخوض غمار الغيوب، وإذا ما جدّف قليلاً أو كثيراً فإنه لا يتجاوز عتبة الاستبعاد الإجرائي للميتافيزيقا مما لا يجعله ملحداً وناكراً للحق .