قلنا بالأمس :إن مثابة الصمت عالية رفيعة استناداً إلى أقوال الحكماء وما جرى على الألسنة من حكم ومرئيات تشير إلى هذا الجانب، وهذا يقتضي إيضاح ماهية الصمت خارج المعنى القاموسي المتعارف عليه، ولهذا وجب االقول :إن الصمت لغة.. اي أن الصمت لغة أشمل من لغة الكلام والدليل ما يُعرف بالاتصال غير اللفظي والذي يتجاوز الكلام إلى أبعاد أُخرى متعددة ومتنوعة وثرية، فالاتصال غير اللفظي هو المهد الأول لأي اتصال بين بني البشر، ولعل الطفل المولود خير مثال في هذا الباب، فهذا المولود الذي يخرج من رحم أمه وهو لا يرى ولا يسمع يستأنس بحاستي الشم والذوق للتعرف على أُمه الحاضنة، وبالتتالي يلج الى عوالم جديدة للتعبيرات فوق اللغوية من خلال الضحك والابتسامة والبكاء، ثم بعد ذلك يلج إلى عوالم أخرى للتعبير من خلال استخدامه لخوارزميات صوتية يصنعها هو بذاته وتتعرف عليها الأم كما لو أنها تلميذة نجيبة في مدرسة الطبيعة الهائلة . يختزل المولود طفولة البشرية وسيرتها المديدة، وبمراجعة عابرة لما ذهب إليه «تشارلز داروين» في كتابه الكبير « أصل الأنواع » سنرى أن تاريخ التطور للكائنات بمن فيهم البشر إنما يتموضع اختزالاً في رحلة الجنين منذ تبلور النُطفة الأولى من اتحاد البويضة بالحيوان المنوي، مروراً بالمراحل الجنينية في رحم الأم، وحتى الولادة وما يجري على الطفل من تطورات إدراكية وإشارية خلال مراحل طفولته المتعددة . الإشارة للطفولة وما جاء في مباحث داروين تعبير آخر عن توافق المشيئة مع العلم الاجتهادي البرهاني، فإذا كانت المشيئة سابقة على الحقيقة فإن الاجتهاد تنكُّب لمشقّة البحث عن توكيد جبري للمشيئة . هكذا كان داروين وإن توهّم غير ذلك، وهنا معنى الاتصال غير اللفظي في الطفولة مما يتصل حتماً بالصمت ومعارجه الواسعة.