كل إعلاء لشأن الأستاذ الجامعي، كان وسيبقى إعلاءً للعلم والمعرفة، وبوصف أي مجتمع فيه فوارق في الرتب المعرفية والعلمية بين أُناسه. ومن دون المسافة المعرفية الحقيقية التي تميز الأستاذ الجامعي، عن ما سواه، هو مجرد شخص عادي، يحمل شهادة علمية، يطل بها على طلابه مرفقاً اسمه الدال. ومن دون المسافة المعرفية، لا تعني الدال شيئاً، ولا يمكن أن تولد فارقاً بين من يحملها وبين أي شخص آخر لا يحملها، أو بين أستاذ وطالبه، بل على العكس، قد تسقط ما تولده الدال من تقدير واحترام وتقديس للعلم، إن كان صاحبها غير نافع ومتقدم على من لا يحملونها بمستوى معين مدرك من المشاركة في رفد المعرفة بكل ما هو حديث . وبذريعة أن ما نفهمه عن الأستاذ الجامعي: من يحمل المعرفة الأسمى في مجتمعه، وهو أحد المسئولين المباشرين عن تطوره وتقدمه. هو أحد المؤسسين للمعرفة والمدافعين عنها وعن تواصلها. هو شخص متعدد المهام ومُلهِم للأجيال الطالعة. وبالتالي حتى يحقق الغاية من وجوده، لا بد أن يكون متمتعاً بقدرات هائلة لتطويع طلابه وإقناعهم على أهمية الإلمام بمتطلبات روح العصر وعلومه وأفكاره. ربما هذا أمر مسلم به، أو هكذا يفترض بالأمر أن يكون. لكن المشكلة أن هناك اساتذة جامعيين ، وهذه مستعصية على الفهم، وهم الأكثر شيوعاً ، يتمتعون بلزاجة عجيبة، ويتماهون ويصطفون إلى جانب عوامل وأدوات التخلف التقليدية. ولا أظن هذا الأمر بسيطاً، بل هو عميق، وربما يعود إلى سببين رئيسيين: الأول قد يكون: بساطة وسطحية وفقر معرفة الأستاذ الجامعي بمفاهيم ومتطلبات التقدم التي يجب أن يتمتع بها، وبدوره من هذه الناحية. والثاني في : معاداة الأستاذ الجامعي، ذاته، لمسار التطور الطبيعي المطلوبة توفيرها للمجتمع ومعاداته لها، وغالباً لأسباب إيديولوجية، وأخرى متعلقة بمواقفه السياسية والاجتماعية . وفي كلا الحالتين، نحن أمام مشكلة، لاشك أنها تشكل الوجود للإنسان اليمني بين الأمم الأخرى، أو لا تشكله. وخاصة فيما يتعلق بمسألة تحديث المجتمع وتحضره. ما دعاني حقيقة لكتابة هذه المادة، استشعاري في لقاءت سابقة مع اساتذة جامعيين، مدى ضعف حيلتهم، وقلة مداركهم، ومحدودية ثقافتهم في مسائل متعلقة بحقوق الإنسان، ومفاهيم كالحريات الاجتماعية الخاصة والعامة، وشروط الجو العام الكفيلة بنهضة الفنون والسينما والمسرح وأهمية احترام الأدب والشعر والأفكار الأخرى الأكثر حداثة، وطبيعتها وأهميتها في تحقيق النهضة لمجتمعنا التقليدي، والأهم من هذا وذاك، مواقف البعض المتعصبة والمتشنجة من شيء كالسينما، على سبيل المثال. بالإضافة إلى هذا، كارثة، أساتذة جامعيين، أمنوا لأنفسهم هدوءاً وانعزالاً، من ضجيج الإطلاع والاهتمام بكل جديد في الكتب والمعارف وأدواتها. وخاصة أن هناك كثيرين منهم لديه جينات ممانعة لتمثل قيم تواصل إنسانية رفيعة، يمكنها أن تبتعد بهم عن تصنيفهم كحواريين منظرين لشروط وأدوات التخلف المعتادة. فبعضهم تحولوا من أشخاص أملنا بفعاليتهم في نهضة المجتمع، إلى أشخاص يشبهون أولئك الذين سمعنا عنهم (كرجال النهي عن المنكر في هيئة الأمر بالمعروف في دول الجوار) ولهم مزاج يتوافق مع هيئة الفضيلة التي أنتوى بعض الناس تشكيلها في اليمن وفشلت محاولتهم في الظاهر. إزاء هذا الوضع اللافت والمتردي، كان وكأنه لا مكان للتأمل والارتقاء فكريا بهذا الموقف لدى الكثيرين منهم في مسائل كثيرة، و إلى نتيجة تقنعك أن الذي يقف أمامك لا يمكنه تحمل مسئولية عالم في جامعة لديه القدرة على أن يحمل مشكلة نفسه على محمل الجد، فما بالنا بهم مشكلة تخلف البلد، و لو بقليل من مراعاة خجولة تساعد على تجاوز عقباتها، ومن قبيل التساؤل أين نحن وأين وصل الآخرون. غالبا كل أستاذ جامعي اعرفه بحث عن ألف حجة، وكنوع من التبرير، لتساؤلات تطرح عن خفة وسطحية الأستاذ الجامعي، ووضعه الذي يثير الشفقة. وحول ممارسة العملية التعليمية في جامعاتنا ومدى توفر شرطها التنويري في طلابها وأساتذتها. وهي حالة اقل ما توصف بأنها مزرية ومتخلفة. هناك حقيقة إجابات غير لائقة بأستاذ جامعي. وبعض الإجابات شعبية وتعود إلى زمن غابر، والبعض منها لِعب لفظي تنقصه الواقعية. وهي عموما إجابات تقلب الحقيقة الكامنة في الأستاذ الجامعي رأساً على عقب. في النهاية، هناك استثناء لكل قاعدة، وفي المقابل لكل وضع مزرٍ، لكنها، أي الاستثناءات، تأتي غالباً إلى جانب وضع خطير النتائج، ومفضوح في وضح النهار، يحدث أو قد حدث، وله تقاليده القديمة والجديدة في فلسفة الإدارة التعليمية – الجامعية، ومناهجها وأساليبها ومفاهيمها وإلمامها بشروط التقدم. وتبدو الاستثناءات بدون أمل كبير، ويُرمى حولها، وعلى مقدرتها في تحقيق النجاح الشبهة. وفي أهميتها في التواصل الخلاب مع طموحات مجتمعنا الشك والريبة. وكون الجامعات، مراكز التنوير، وبيئة لنشاطه الطبيعي، وتشويهها وإبعادها عن مهمتها العلمية والنهضوية، ومن ثم تحويلها إلى دكاكين يتحكمها المزاج التقليدي، من المشكلات التي تكرس التخلف والجمود في المجتمع، وتعيق نشاط أبنائه عن التحليق عالياً فكراً ومعرفة وإبداعاً. فإنه يبدو من المهم العناية بالمؤسسات الجامعية، وعلى رأس الاهتمام “الدكاترة” الجامعيون وتوفير الشروط الموضوعية لتحويلها إلى قلاع للاستنارة، ولغاية التزود بالمعرفة الحديثة وعلومها . والأهم النأي بها عن تجنيد الأنصار وحشو العقول بالإيديولوجيات الدوغمائية. ولكي لا نجد أنفسنا معزين لعمليتنا التعليمية، إضافة إلى عزائنا برحيل الأستاذ الجامعي والمفكر العربي الكبير نصر حامد أبو زيد.