تسعى هذه الورقة إلى عرض مشهد المعرفة كما يتمثل في السياق المعرفي بارتباطاته وولاءاته الإيديولوجية، قصد الإسهام المتواضع في تلمس الأسباب المساعدة على تحقيق استقلال رسالة المعرفة والتعليم وتحريرها من الارتباطات غير المعرفية. الإجراءات المنهجية - تم التعامل مع السياق المعرفي العربي، موضوع الحديث، على أنه سياقان: سياق معرفي ملتزم، و"سياق معرفي مستقل" كما تم اعتبار السياق الثقافي ك«سلطة» سياقاً معرفياً ثالثاً. - تم اعتبار "السياق المعرفي الملتزم"« مقابلاً موضوعياً "للسياق المعرفي المستقل" كما تم اعتبار المعرفة التي يولدها كل سياق منهما تختلف عن الأخرى طبيعة وخصائص "ماهوية"، هوما يفصل بين الورقة الطبيعية الحية وميحكمها من سنن، والورقة «الأيقونة أو الصناعة» الثابتة، وما يحكمها من سنن، رغم التقائهما على المستوى المورفولوجي «Morphology» «السمات الشكلية». - تميز الورقة بين "الدولة" و"النظام السياسي" حسب معظم الدارسين. - تتعامل الورقة مع التجربة المعرفية العربية والإسلامية على أنها تمثل سياقاً معرفياً واحداً حيث التقسيمات القطرية لم تنل من المشترك المعرفي المتعالي عن كل ماهو قطري، نفس الحال مع المشترك السياسي، والمشترك الثقافي "العالم" والمشترك الثقافي العام غير العالم المختبئ «إيبيستيمولوجيا» أحياناً تحت عباءة الفكر، فترتب على وحدة المصدر وحدة الأثر، بما يشفع بتعميم النتائج على نسبيتها. الأطراف المنتجة للمعرفة بالنظر إلى هذا الحوض المعرفي في بلادنا العربية نلاحظ أن أطرافاً مختلفة مؤسسات وأفراداً ساهمت في إنتاجه، ويمكن تصنيف هذه الأطراف، من حيث معيار الهدف والغاية المنشودة من إنتاج المعرفة إلى فئتين: الفئة الأولى أرادت بمساهمتها تأمين الغطاء المعرفي الحامل والحامي والمديم لمشروعها وشرعيتها ولمصالحها، وهي فئات شتى يجمعها هذا المشترك، ويمكن أن تعرف هذه المعرفة ب «المعرفة الأيقونية» «محاكية للمعرفة الطبيعية» وبما أن المصلحة هي التي تولد المعرفة فيمكن الترميز إلى هذه العلاقة بالرمز «مصلحة معرفة» ويصفها الأستاذ عبدالإله بلقزيز بأنها "الثقافة التي لايكون وازعها المعرفة بل خدمة مصلحة غير معرفية أو تقع خارج مطالب المعرفة: ثقافة المؤسسة «الدولة أو الحزب» وهي ثقافة يجرى تصميمها سلفاً، أي لا تتحرك وفق نظام آلية إنتاج الأفكار، بوصفها آلية تخضع لمنطق موضوعي، بل تهيء على مقاس تلك المؤسسة، وهي لذلك السبب وبمعيار معرفي صرف، ثقافة إيديولوجية، تحل المصلحة «وهي، بالمناسبة، ليست المصلحة العامة» محل المعرفة، وعلى هذا فأخلاق هذه الثقافة ليست أخلاقاً علمية، بل هي أخلاق ذرائعية نفعية". «عبدالإله بلقزيز، نهاية الداعية، ص 63». تلتقي مع هذه المعرفة تلك المعرفة التي أراد بها منتجها تنمية المعرفة بعيداً عن المصلحة الفئوية، غير أنها في طريقها. 1 صادفت ظهور نظام سياسي وجد فيها مشروعاً قابلاً لأن يستمد منه مشروعيته في الحكم والبرنامج والبقاء، فتبنى تلك المعرفة بنقلها من تربتها الطبيعية ليستنبتها في القصر فتنزل إلى الناس برداء رسمي، وبذلك تتحول من "أطروحة" إلى "طقس" واجب القبول والتسليم، ومن أبرز نماذج هذه المعرفة مساهمة الفيلسوف ماركس التي نشأت، بداية، في سياق تنمية المعرفة لتتحول مع اختطاف النظام السياسي لها إلى شيء من خصوصياتها الرسمية، تقبل كالعقائد وتعلل لتؤكد وتعزز، وجديدها لتجديدها، ثم انتشرت من خلال الأنظمة السياسية إلى الشعوب والمؤسسات التعليمية «ثورة القصر على الشعب». - 2 تحولت لدى الأتباع إلى معرفة موظفة في خدمة الجماعة الواعية بذاتها التي نصبت خيامها حولها وأعادت هيكلتها بما يجعلها مستجيبة، لمصالحها المشتركة، ويمكن تسميتها ب «المعرفة المؤدلجة» وبما أن المصلحة لحقتها في مرحلة النقل لا الإنتاج، فيمكن الترميز لهذه العلاقة ب «المعرفة المصلحة». الفئة الثانية أرادت بمساهمتها خدمة المعرفة ذاتها، وهي بهذا المعيار فئة واحدة في نفسها رغم أنها غالباً جهد أفراد، وحديثاً انتضمتها مراكز بحثية، ويمكن أن تعرف ب «المعرفة الطبيعية» حيث الغاية تتجاوز الذات إلى المصلحة العامة ولا تصدر عن رغبة جماعة واعية بمصلحتها بما يستتبع بنيوياً أن الحوض المعرفي في بلادنا العربية يضم سياقين من المعرفة: سياقاً ملتزماً وسياقاً مستقلاً إلى جانب السياق الثقافي. 1 السياق المعرفي السياسي الملتزم يقصد ب «السياق السياسي» تلك الأرضية أو البنية السياسية العميقة التي تستوطن قاع الخطاب محوراً له، لينتهي إلى بناءٍ ظاهره معرفة، وباطنه سياسة. بعبارة أخرى، سطحه معرفة وقاعه سياسة، وبتعدد السطوح ووحدة القاع مايزكي ماجاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003 من "أن الصراع المعرفي في الوطن العربي صيغة للصراع حول السلطة.. وأن الصراع السياسي في الوطن العربي هو صراع من طبيعة معرفية.."«ص145». ومن أبرز الأطراف المنتجة لتلك الخطابات الملتزمة مايلي: النظام السياسي: يقع مركز الخطاب في النظام السياسي غير الديمقراطي في «لماذا تحكم» فهو خطاب يقوم على «التعليل والتبرير» والتعليل «وعد» فجاء المشروع يحمل اسم الوعد: تحقيق الاشتراكية، تحقيق الوحدة العربية، تحقيق الحاكمية.. مغايراً بذلك الخطاب الديمقراطي القائم مركزه على «بإسم من تحكم» لخدمة هذا المركز تم بناء الخطاب بتضخيم مبرراته الوعودية، مع التقليل من أهمية مركز الخطاب الديمقراطي، حيث لايهمه "كيف جاء الحاكم" وإنما "لماذا جاء" يتولد تلقائياً من هذا المركز أو ذاك ثنائيات معرفية متقابلة منها: كون النظام السياسي الشمولي منتجاً للمعرفة، وفي النظام الديمقراطي راعياً لها، لتتولى إنتاجها مؤسساتها التي تستمد مشروعيتها من استقلالها عن النظام من حقها في التفكير والتعبير والنشر والتوزيع. في الحالة الأولى تتجه رسالة المعرفة نحو تعزيز المشروع الذي هو في نفس الوقت مصدر المشروعية، وفي الحالة الثانية تتجه نحو تنمية المعرفة وخدمة الصالح العام وبناء الإنسان. في الحالة الأولى قد يجمع الحاكم في شخصه بين «الأمير والعالم» برباط إيديولوجي، بما يختفي معه إقامة منطقة معرفية محايدة تساعد على المراجعة دونما تخوف من تدخل، في حين كون الخطاب الديمقراطي مستقلاً عن الحاكم ومنتمياً، في إنتاجه ونقله وتطويعه، إلى الأمة ومصالحها العليا. - ولعل المقابلة بين خطابي الثورتين «البلشفية» و«الفرنسية» مايعطي مزيداً من الجلاء: حيث الخطاب في الأولى خطاب الحاكم وهو منتجه ومعيد إنتاجه ومرسله إلى الشعب والشعب مستقبله، فكانت ثورة القصر على الشعب. وفي الثانية خطابها خطاب الأمة، خطاب مجهول المؤلف الفرد، الشعب مرسله والحاكم مستقبله، فكانت ثورة الشعب على القصر. - والملاحظ أن دولة مابعد الاستقلال في الوطن العربي اتجه بعضها نحو الاستفادة من الخطابات التي كانت سائدة يومها في الساحة العربية والدولية فتم تبني هذا الخطاب أو ذاك ليصبح الخطاب الرسمي، فوقع في شرك الايديولوجيا يؤسس للمشروعية والمشروع في نفس الوقت، كما تم تعانق المثقف والمؤسسة الحاكمة في شكل الحزب بجامع "مشترك الخطاب". - كما نجد أن كل الخطابات التي سادت بعد الاستقلال قد حظيت بالاعتماد المرجعي لهذا النظام أو ذاك في إدارة الشأن العام هذا الخطاب الديمقراطي الذي شكل نقطة تقاطع مصالح تلك الخطابات، فتنافست تلك الخطابات في الحكم عليه إما بعدم أهلية المنطقة بعد لاستيعابه، فتم وضعه في خانة «المشروع المشروط» فجاءت «الاشتراكية» شرطاً للديمقراطية في هذا الخطاب وجاءت «الوحدة» شرطا لها في خطاب آخر... وما ذلك إلا لكون تلك الخطابات جميعها قد حددت منطقة عملها خارج منطقة النظام «وهو مسكوت تلك الخطابات» في حين ان خطاب الحرية السياسية يبتدئ فعله من تلك المنطقة، من نقطة تأسيس مصدر مشروعيته، وهي النقطة التي تريدها تلك الخطابات نقطة نهاية لانقطة بداية، يقول العروي: ".... إن هيجل يضع الحرية في بداية التاريخ، تأتي الماركسية فتقلب هذه المقولة وتضع الحرية في النهاية، عندما يختفي المجتمع الحالي المبني على الملكية الفردية... "«عبدالله العروي، مفهوم الحرية، ص67» فكان ذلك العامل وراء «مسكوت خطاب الإرجاء أو التعليق أو الاستبعاد». وتأسيساً على ماتقدم يلاحظ أن محيطاً هذه ظروفه لن تفلت رسالة المعرفة ومؤسساتها من تأثيره في دعم مايخدم توجهاته وطموحاته وعدم دعم مايتعارض معها، كما أن مساعي "التميز والإبداع" يعوقها السياج الثقافي الحارس للخطاب، بما يعني أن أي نظام سياسي لايمكنه أن يدعم المعرفة المتجهة نحو الأمة، وهو المفتاح الرئيس للتميز والإبداع إلا إذا كان ينتمي معرفياً ومؤسسياً إلى الأمة، وهو مالايتحقق في غير التجربة الديمقراطية التي تنفرد بامتياز في احتكار بناء دولة المؤسسة ومن ثم تأمين المناخ الآمن للتميز والإبداع. الرباط الصوفي يغترف هذا الخطاب من نفس المعين المنتج للمعرفة الموظفة في خدمة الذات المنتجة، معين بناء الرمزية في شخص منتجه وناقله: «القطب الأمير الإمام النظام السياسي أمير الجماعة». ويقوم مركزه على مِن "مَن" تؤخذ المعرفة؟ ولما كان الجواب "من الله ورسوله" فقد اقتضى السؤال عن "الآلية" فكان جواب "الكشف" ليولد سؤالاً حول آلية اكتساب الكشف فكان جواب "الإرادة والمجاهدة "لا" العقل "ليولد الفصل بين "العامة" و"الخوض" ليصل التطور التصاعدي إلى توليد درجة تسمى "القطب" ذلك من حيث حامل المعرفة، أما من حيث نوع هذه المعرفة وعلاقتها بالمعارف المألوفة بما فيها الشريعة فقد ولد مطلب التناغم بين مكونات الخطاب انطلاقاً من مراعاة مركزه أن تكون هذه المعرفة نوعية ليست مما يكشف للعوام وتسمو على المعرفة المستمدة من الشريعة، لتبرز منظومة متجانسة من المفاهيم الزوجية: التفسير *التأويل، الظاهر*الباطن، الشريعة*الحقيقة، علم الظاهر* علم الباطن. - بهذا المركز أسس هذا الخطاب مدخلاته المعرفية في اكتساب الرمزية الدينية واحتكارها من أن علاقة رموزه بالمعرفة هي علاقة "تحصيل" لاعلاقة" إنتاج "ثم أن هذا "التحصيل" يأتي بالاستناد إلى قاعدة "حدثني قلبي عن ربي" وإلى قاعدة التلقي المباشر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم دون احتاج لسند، فهو يقدم خطابه لاعلى أساس «ماذا يقول» كغيره من الخطابات، وإنما على أساس «من يقول» ومن «من» استقي مايقول، ذلك مركزه ومحور دائرته. وقد تمكن هذا الرباط من بناء خطاب معرفي بجهاز مفاهيمي هائل يجمعه مشترك الإحالة إلى ذاته لا إلى الأشياء Reverence، لغة تحيل إلى لغة لا تتعدى ذاتها إلى خارجها حيث لاخارج لها تحيل إليه. - وإذا كان رأسمال هذا الخطاب يقوم على إقصاء العقل والتفكير فإنه يتعارض سلفاً وبيئة التميز والإبداع، كون هذا الخطاب لايعيش الا حين وحيث يضعف سلطان العقل. الرباط الإسلامي الإسلام دين: مصدره نص إلهي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، وسنة لاينطق صابحها، عليه الصلاة والسلام، عن الهوى وقراءته بشرية، قد يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها أو منهما معاً، وقارئه واحد من اثنين وفق الآية الكريمة. "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ومايعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا" «سورة آل عمران، الآية7». 1 قارئ يبتغي تحصيل المعرفة وإنتاجها فينتج نصاً خضع في إنتاجه لشروط إنتاج المعرفة من التجرد والموضوعية وتجاوز الذات ما استطاع، فأصاب وأخطأ وخالف واختلف مع قراءات أخرى. 2 القارئ الثاني هو الصادر عن خلفية «زائغة» هي الاطار المرجعي المسبق لتخليق قراءته، حيث يتنقل بين الآيات الكريمة ينتقي منها مايلقي عليها حمولته الجاهزة فينطق الآية قصداً وقسرا بما ألقى عليها من خارجها، وتنتمي القراءات الفسطاطية إلى هذه القراءة: حيث الفتنة أو التأويل هو المحرك الخلفي للقراءة. ومع ذلك، فإن هناك قراءات جادة بريئة من هاجس الفتنة أو التأويل في انتاجها لتلحقها الفتنة في مرحلة «نقلها» لدى الأتباع، فتتحول من "اطروحات ونظريات إلى عقائد ومنظومات" وفق تعبير الدكتور رضوان السيد «الصراع على الإسلام: الأصولية والاصلاح والسياسات الدولية، ص145» أي إلى نواة معرفية لتأسيس فئة ترى مصلحتها وطموحاتها «سياسية غالباً» تتحقق من خلال تبنيها فتبني حولها موقعها وتنظيمها ومصلحتها، وتعيد انتاجها رؤيتها الجامعة لجماعتها. الرباط السلفي - يقوم مركز هذا الخطاب على «الحاكمية» و«الهوية» سؤال الشريعة وهوية الأمة، وهذان المركزان بدأ معرفين وانتهيا غير معرفين مع خطاب الرباط السلفي السائد اليوم، خطاب «الولاء والبراء» تأسس خطاب هذا الرباط في حقل «الفقه» بإعادة هيكلته في مضمونه ومنهج تناوله ومرجعيته التشريعية ومقاصده.. بأن حوله من حقل معرفي اجتهادي مفتوح إلى حقل مغلق: مغلق على العقل مفتوح على النقل، ذلك من حيث المنهج، ومن حيث المعيار فقد تم تأسيسه في اقتطاع نمط حياة فئة بعينها هي فئة الصحابة، رضوان الله عليهم، وفترتهم، مختزلاً مشروعه المعرفي في شعار مغلق البنية يتمثل في «كل خير في اتباع من سلف وكل شر في اتباع من خلف» وبهذا الشعار الذي يمثل بنيته التحتية المعرفية يصادر سلفاً كل مايتطلبه التميز والإبداع في تنمية المعرفة وتحسين فرص الحياة وتجددها، وذلك حين غرق في الحياة والرمزية والمتاع من باب الزهد بها، وألغى العقل باعتماد النقل، وألغى النص باعتماد حياة الصحابة مصدراً للاحتجاج بهم وبفترتهم يقرأ النص القرآني الكريم والحديث الشريف، وبهم يفهم، مع ماأضيف إلى سيرتهم وفترتهم من اضافات شعبية، في هذه المقاطعة المعرفية المؤطرة زماناً وشخوصاً شيد الخطاب السلفي نصيته، وصادر ماهو خارجها «العقل والتجربة الحضارية الإسلامية والإنسانية وخدمة فرص الحياة الكريمة» إلى خانة الابتداع. - وقد ترتب على توسيع دائرة الابتداع أن انسلخ من باطن الفئة المكتفية بأحكام التبديع فئة أخرى تتجاوز التبديع إلى التكفير لتتولد منها فئة ثالثة تتجاوز التكفير إلى الجهاد وبتوسيع نطاق التكفير ضاق نطاق الإيمان ليقتصر على الجماعة المتحدثة باسمه فقط «5» أي ان مركز الخطاب انتهى به إلى رفع سقف العمل بالشريعة بحيث لايطاله إلا هُم، وضيق من مركز «الهوية» بحيث لايحمله إلا هم، بعبارة أخرى، بدأ بدعوة الناس إلى الشريعة وانتهى بإخراجهم منها، وتلك نهاية تعانق السياسة والدين ليكون بيئة خانقة لكل نزوع في التفكير والتجديد والتميز. الخصائص العامة لهذه المعرفة في هذه المعرفة، على تنوع مقولاتها، جذر مؤسس لتداعيات وأعرض عديدة، يتمثل هذا الجذر في أسبقية المصلحة رحما لتخليق المعرفة، من هذا التخليق جاءت تلك المعرفة تحمل سمات أساسية غير سماتها التي تتسم بها في حال إنتاجها في الرحم الطبيعي، بما يبرر القول: إن المعرفة الأيقونة تمثل «مقابل» للمعرفة الطبيعية، نلمس ذلك من مشترك السمات الأساسية الماهوية المتواجدة تلقائياً في المعرفة الأيقونية إلى درجة القابلية للتنبؤ، وتأسيساً على ذلك، يصبح من عبث القول والعمل أن ننشد التميز والإبداع في معرفة سماتها الجوهرية مايأتي: 1 غياب الموضوع إن هذه المعرفة لاموضوع لها، فقد ترتب على إضمار الموضوع الهدف أن تحول المعلن «الخطاب» إلى «أداة» تقوم بوظيفة القناع والاستقطاب معاً، خطابات موضوعها مضمر ومعلنها أداة لخدمة المضمر، ومن هذا التزويج «الأداة الموضوع» تتوالد كل التداعيات والانسلاخات والأعراض المزمنة المشكو منها في بعض الخطابات العربية: من فقر معرفي وسكونية وتعصب وانغلاق وسرية ورباطية.. إذ أنه حين يصبح الموضوع أداة فلا ننتظر منه غنى أو تطوراً أو انفتاحاً أو تجاوزاً للذات المنتجة، وبما أن مسكوت الخطاب مستور لدى فئته مكشوف لدى الجماعة الأخرى في قائمة الأضداد، فإن الرسالة المتبادلة بينهما تتجه إلى التعرية المتبادلة للمستور، فتكون الاتهامات من جانب رسالة التعرية، وتكون البرهانية والذرائعية من جانب رسالة سترها، بما جعل من السجالية أبرز مظاهر الخطابات العربية، موضوع المراجعة. الدائرية - إن أي معرفة، بغض النظر عن موضوعها وحقلها، تتجه نحو بناء منتجها تنتهي بالطبع إلى تشييده وإمامته وتقديسه، حيثما كانت الذات الفسطاطية هي البنية التحتية المولدة لها، ويترتب على هذه العلة المركزية الأم Proto اتسام هذه المعرفة ب «الانغلاق الدائري البنيوي» «فالمصلحة تولد المعرفة التي بدورها تتجه في مخرجاتها لخدمة المصلحة، بمعنى أن المحتوى المعرفي مفصل سلفاً في أبعاده ومقاساته على جسم المنفعة المرجوة منه لمنتجه فهي بذلك معرفة "مكتملة" لاتقبل من داخل بنيتها مراجعتها أو تنميتها ويقتصر التجديد فيها على وسائل نقلها أو نشرها دون المساس بمتن محتواها الذي يكون أولا يكون، وهي الحدية الحتمية لحال المستفيدين منها: يكونون أولايكونون. ومن أعراض هذه الدائرة الخبيثة مايلي: 1 عدم قابليتها بنيوياً للحوار والمراجعة مادامت الفئة المستفيدة منها قائمة عليها وبها، ذلك أن أزمة هذه المعرفة تقع في طبيعة الرحم والقالب الذي تتشكل وتتخلق فيه أو تنقل وتنشر: رحم المصلحة الرباطية المضمرة. 2 السكونية وهي لازمة انغلاقها، وذلك لكونها تدخل مع منتجها في علاقة نفعية متبادلة «حلقة مفرغة» شأنها شأن حبة القمح والإنسان، حسب بعض المفكرين، كل يحتاج إلى الآخر ليبقى.. بما يجعل الزمان معها ساكناً حيث الزمان يكون مع التطور ولاتطور في هذه المعرفة. 3 الرسولية بما أن هذه المعرفة تتخلق في رحم المصلحة المضمرة لمنتجها فإنها تتجه نحو بنائه لتنتهي به ميثولوجيا الأتباع شيخاً لايمكن تجاوز سقفه المعرفي، أو مقدساً معصوماً ذا رسالة رسولية منقذة ويستمد معارفه من الله ورسوله مباشرة كما في التجربة الأثني عشرية والصوفية، وقد "استتبع، حكما، على هذا التضخيم الخارج عن حدة تعريض دورهم للمحاسبة، نعني لقراءة لوحة الفارق بين ماأعلنوه وما أمكنهم أن ينجزوه فعلاً" «نهاية الداعية 78». 4 القابلية للتطرف إن هذه المعرفة التي لاتروي سوى عروق منتجيها تمثل بيئة مواتية لاستنبات المذاهب والإيديولوجيات والشعارات ومنها ماتتحول مع عاملي القدم «عبر الزمن» والانتشار «عبر المكان» إلى ثقافة غير عالمة تدافع من داخل بنيتها عن بقائها وقنوات نقلها وخاصة حين تتحصن بثنائية «الأنا» و«الآخر» لتنتهي بالتطرف، خاصة إذا دخل في مكوناتها الدين والسياسة. 5 الانعزالية عن نهر المعرفة العام إن هذه المعرفة، بحكم عدم استقلالها عن مصالح منتجيها، تموت باختفاء الفئة المستفيدة منها أو بعجزها عن الاستمرار في خدمة مصالح أصحابها وتتحول إلى تجربة منبتة تائهة في الفضاء التاريخ، تهم المؤرخ لا الممارس، حيث لاقيمة معرفية مستقلة تشفع لها بالبقاء خارج دائرة منتجيها. 6 الفسطاطية إن كل معرفة هذا شأنها يقف وراءها حتماً تنظيم مستفيد مباشر منها، هو منتجها وناقلها، حتى إذا ما انتشرت من خلال الآلية الاستقطابية الأنصار والدعاة تحولت مع الزمن والتراكم إلى «هوية صغرى» لأصحابها لتولد «آخر» يتشكل تلقائياً انطلاقاً من حقيقة أن كل جماعة تبني وعياً داخلياً بها «In Group» تبني في نفس الوقت، بطريقة غير مباشرة، الجماعة المقابلة لها خارجها «Out Group» وهو مانشهده الآن من طائفية سياسية في بعض البلدان العربية. وللأستاذ الجابري تشخيص لهذه الخطابات والبنى المعرفية في أعماله العلمية المتميزة وخاصة ماجاء منها في كتابيه «تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي» وخصص عملاً للخطابات العربية المعاصرة التي ينظر إليها، موفقاً، على أنها خطاب واحد في نفسه، وذلك في كتابه «الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية 1982» وهو جهد أشبهه ب «الارجانون الجديد» للفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكن «Francis Bacon, 1561-1626» في مراجعة أوضاع المعرفة في عصره الصادرة عما سماها «أوهام العقل الأربعة» مع فارق أن جهد بيكن أثمر لكون منطقة إصلاحه كانت في «المنهج: الوسيط الإجرائي بين الذات والموضوع» في حين أن «العطب» الذي يراجعه الأستاذ الجابري يقع جانب كبير منه في «الذات» المنتجة أو الناقلة نفسها، الذات المتعمدة إنتاج أو تبني هذا الموضوع بالذات دون غيره وهذا المنهج بالذات لتناوله دون غيره، أي يقع في الرحم التي لايراد منها تخليق معرفة وإنما يراد منها تخليق غطاء يستر ويخدم مضمراً مسكوتاً عنه، فالمصلحة الفسطاطية المباشرة هي التي تحدد الموضوع ومنهج تناوله. ب. السياق الثقافي - للثقافة سلطتها في التأثير على رسالة المعرفة، ونقول "التأثير" لأن الثقافة لا تنتج معرفة، وإنما تؤثر فيها، والتأثير، حين يتم، قد يكون في مرحلة الإنتاج، أو في مرحلة مسيرتها حين تجعل من "الأصول سلطة" يطلق عليها الأستاذ الجابري "سلطة الأصل" «بنية العقل العربي، ص760» ومظاهر هذه السلطة الخفية من الوفرة ما لايسمح هذا الحيز باستعراضها، ويهمنا من تجليات هذا التأثير مايخص "فعلها" في توجيه المعرفة، إنتاجاً أو صيرورة، نحو مايعزز سلطتها على حساب خدمة البحث عن الحقيقة في المقروء، وهو مايجعل القراءة الثقافية قراءة حاجبة لاكاشفة كما تقدم. - وتلتقي الثقافة مع المصالح المضمرة وراء إنتاج المعرفة حين تنصب شبكتها حائلاً ووسيطاً بين الذات والموضوع، فتصبح الذات ترى الموضوع من خلالها، كما ان الموضوع لاينفذ بعطاءاته إلى الذات إلا من خلال هذه الشبكة/ السلطة، وبتحكم هذه الشبكة في مدخلات التفكير كوسيط منهجي خادع تنتهي مخرجات التفكير والقراءة نحو تعزيز وترسيخ وسلطة الثقافة بما يجعل كلاً من الثقافة والايديولوجيا تصدران في إنتاج المعرفة ونقلها من مشكاة واحدة هي خدمة الذات المنتجة للخطاب: سواء أكانت الذات نظاماً سياسياً أو حزباً أو جماعة عرقية أو إثنية أو جماعة ثقافية، حيث تقوم الثقافة بدور المرجعية الجاهزة في التعامل مع ماتستقبل من خارجها، وهو الدور نفسه الذي تقوم به "الايديولوجيا التي تحتل من الإنسان موقع العقل... كمكان تجرى فيه عمليات التفكير.. "ولعل ذلك ما أشار إليه الفيلسوف الإنجليزي الشهير فرنسيس، بيكون ب "وهم المسرح" لتنتهي القراءة الثقافية.