العمل الفني على اختلاف ألوانه وأشكاله المتعددة هو تجربة شعورية تخرج من رحم المجتمع وتنال قسطاً كبيراً من الرعاية والاهتمام لدى المبدع، ثم ما تلبث هذه التجربة أن تعود إلى المجتمع في صورة فنية جديدة فيها من سمو الفكرة وجمال الصورة وبديع الشكل ما يتألق به اللفظ ويزهو به المعنى في تحقيق القيم الجمالية والنفعية للعمل بتحقيق الأثر لدى المتلقي(القارىء المستمع المشاهد..الخ) وهذا الأثر الذي يحققه العمل الفني هو ما نسميه هدف الرسالة الفنية وكثيراً جداً ما يكون نبيلاً وإنسانياً إلا ما ندر. والتجارب الفنية التي تصل إلى هذه الدرجة من القدرة على أداء رسالة العمل الفني التنويرية في المجتمع هي تجارب اتسمت بمواصفات عديدة واتسم مبدعوها بها أيضاً...وأهم تلك السمات هي (الصدق الفني الذي يعني صدق الفكرة وصدق اللفظة في التعبير عن تلك الفكرة بشكل متلائم ومتناسق وصدق الصور الجمالية المتخيلة التي تجسد مضمون التجربة، بعيداً عن التكلف والابتذال الذي يفسد نقاء العاطفة). وأيضاً العمق والشمول: إذ لابد للتجربة الفنية أن تتمرد على أفكارها المغلقة والمحصورة في نطاق ضيق وأن تتنكر لذاتها المغلقة بحيث تصبح فيها من عمق المدلول وأبعاده ما يجعلها مثاراً للتأمل وفيها من شمولية المضمون ما يجعلها لسان حال الإنسانية جمعاء وفي كل زمان ومكان...ولنا في الأعمال الفنية الخالدة للمبدعين في أنحاء العالم منذ قرون عديدة مضت وحتى اليوم الشاهد العيان على ذلك...(فالظلم) مثلاً...قرأناه وشاهدناه في كثير من الأعمال الفنية العظيمة وعلمتنا تلك الأعمال أو معظمها أن الظلم بقعة سوداء في جبين الحياة وأن الظالمين وصمة عار في جبين البشرية ولكنها أي تلك الأعمال علمتنا أيضاً أن الظلم والظالمين مصيرهما إلى الزوال وإن طال بهما الأمد لأن العدل والحق والخير والجمال لهم النصر في نهاية المطاف. وكذلك (الحرية) كم عالج مضامينها المبدعون في أعمال فنية استنهضت همم الشعوب المقهورة والرازحة تحت وطأة الاستعمار أو كهنوت الحاكم المستبد ليثوروا ويكتبوا بالدم الحر ملحمة الحرية....الخ هذه هي رسالة الفن في مجتمع الإنسانية جمعاء !.. يرسم على وجه الحياة بسمة الأمل ويتعالى بالإنسان عن كل الصعاب ليبلغ هدفه المنشود. وحتى يكون العمل الفني قادراً على خلق روح جديدة ومتجددة للناس والحياة يجب وهذا هو الأهم أن يكون مبدع العمل أو مجموعة مبدعيه على قدر كبير من الشعور بالمسئولية في أعمالهم فليس من نقاء الفكر ما يجهد نفسه في عرض “الظلم” مثلاً في عمل فني كقدر أبدي على الناس .. وعلى مجتمعات الأرض الاستسلام لهذا القدر والتسليم به كواقع ممتد على مر الحياة.. إذ إن رسالة الفن هنا وهذه وجهة نظري ليس مهمتها الترويج للرذيلة والشر وكل الموبقات التي لاتخلو منها الحياة بقدر ما تهتم بمعالجة تلك الرذائل وتغرس في نفوس البشر القوة على الفداء وبذل التضحيات حفاظاً على طهر الحياة المضمخة بالكرامة...ومثل هذا النوع من الأعمال التي تسمي نفسها “فناً” هي لسان حال فردية ضيقة تعبر عن مكنون نفس مريضة اتخذت موقفاً معيناً من واقع ما فجاءت تجربتها الفنية تحكي هذا الموقف وتحاول وللأسف فرضه على المجتمع...والمؤسف أكثر أن مثل هذه الأعمال قد تنحى بالمتلقي منحى آخر إن تصالح مبدعوها مع ذلك الواقع وهذا ما يبدو جلياً في كثير من أعمالنا (شعراً أو نثراً أو أعمالاً إذاعية أوتلفزيونية...الخ) حيث يتوافر فينا الإبداع والمبدعون ولكننا وللأسف الأشد نسخّر تلك القدرات في خدمة مصالح ضيقة لاتمت من قريب أو بعيد بصلة إلى رسالة الفن الحقيقية في التنوير والنضال الصادق اللفظ الطاهر المعنى الجميل القادر على التأثير في المجتمع الإنساني العام ولعب الدور الحضاري في معالجة أمراض الواقع المعيش...فعلى سبيل المثال لا الحصر...ما اتحفتنا به قناة “السعيدة” منذ اليوم الأول من شهر رمضان المبارك من خلال العمل الفني التلفزيوني الناجح (همي همك) الذي استطاع جذب المشاهدين داخل وخارج الوطن لمتابعته. لا لشيء إلا لأن معظم المشاهدين وجدوا فيه خروجاًعن المألوف في الأعمال الفنية في بلادنا وأهم المظاهر الجديدة فيه” الطابع التهامي” في الأحداث (مضمون العمل) وفي اعتماد اللهجة التهامية التي تحتل مساحة كبيرة في العمل. إذ إن فكرة العمل ومعاناته (التجربة) ليست بالجديدة القادرة على الجذب قد ما استطاع إنسان تهامة البسيط في لهجته ومسكنه ومعاناته وحتى في مواطنته الصالحة...وللأمانة فإن العمل يمثل قفزة نوعية للدراما اليمنية المتلفزة التي جمعت بين تراجيديا الواقع المسكون بالألم وكوميديا العفوية والروح التهامية الضحوكة حتى في أشد الأخطار. وإننا نتوجه إلى كل الجهات التي أبدعت العمل أو قامت برعايته أو ساهمت في إخراجه إلى المشاهد بالتحية والتقدير ونتمنى مزيداً من الأعمال الفنية الناجحة في بلادنا ومزيداً من الدعم والرعاية والتألق حتى نستطيع المنافسة على الأقل في إطار دول الجوار فاليمن لاتنقصها المواهب ولا المبدعون. فقط نود لفت النظر إلى بعض الملاحظات التي تبدو عابرة ولكنها تمثل (المحك) ليس في هذا العمل فقط بل وفي أي عمل آخر...وأهم ما لاحظناه: عدم اهتمام أحداث المسلسل بالعلاج قدر اهتمامها بعرض الداء والتركيز عليه وإعطاء ذلك مساحة كبيرة...فالفن رسالة حياة ينتصر للحق بقوة النظام والقانون وإرادة المجتمع المتطلعة إلى بلوغ الحياة الكريمة فالحق والعدل هما المنتصران وإن طال أمد الظلم والظالمين...أما أن نهمل هذا الجانب فإن الناتج (الأثر) لدى المتلقي والمشاهد يوحي بوقوف العمل الفني في صف الظالم لتجسيد ظلمه حتى يتطاول أكثر وهذا ما لم نتعلمه من الفنون ذات الرسالات الإنسانية الخالدة. التكلف والابتذال في أداء اللهجة التهامية لدى البعض ولست أدري ما الذي كان يمنع من البحث عن ممثلين من أبناء المنطقة وهم كثيرون... الأهم : (هل اختزلت الهموم في زاوية هموم العمل الفني فقط؟ وحتى هذه...هل تمثل تهامة محور العمل؟؟ شكراً لأنكم تبدعون...ولعل القادم من الحلقات يأتي أكثر صدقاً وشفافية..