في كل مرة ينهى الله عن الشرك به في القرآن الكريم يأتي بعدها بالأمر بطاعة الوالدين وأداء الحقوق إلى أصحابها من رعاية يتيم إلى إعطاء المساكين إلى إعطاء الجار حقه منا , وحق الجار لايكون فقط بالهدية أو السلام أو السؤال أو الاجابة.. أقصد السؤال عنه إذا غاب وإجابته إذا دعا , بل إن من الحقوق الكثير مما لانعلمه من إشعار الجار بالأمان من بوائقنا أي افتعال المشاكل والتسبب في الأذى والقلق والخوف ممن لايجب أن يشعر معه إلا بالأمان والطمأنينة. جيران اليوم ليسوا هم جيران الأمس , حيث أًصبح الكل مشغولاً بنفسه وتمر أشهر وسنوات والجيران يعيشون غربة قاتلة وكأننا في مجتمع متعدد الأديان وهذا قمة السوء الذي تأتي من بعده القطيعة التي لايرضاها الله والتي تحجب الخير والرزق والمطر عن عباد الله . إن السؤال عن الجار وطلب الألفة إلى جنابه وإشعاره بأنه أمانة لدينا وأننا وما نملك أمانة لديه ؛ يجعل من المجتمع بأكمله مجتمعاً مثالياً متماسكاً قوياً وهذا التماسك يجعل المجتمعات ذات سيطرة على أرواح وممتلكات أفرادها إذ إنه في حال وقوع الكوارث الطبيعية أو الحروب فإن تلك اللحمة المتماسكة من البشر تستطيع حماية نفسها بجدارة ضد التيار القادم. التآلف بين الجيران يندب إلى الشعور بالمسئولية كل فرد تجاه الآخر , إذ يصبح من الصعب إهمال مريضهم أو التغاضي عن المظلوم فيهم أو السكوت على الجائع بينهم .. هذا الحق الذي كفله الاسلام للجميع كان سيئاً في أن مجتمعاتنا الاسلامية مطهرة تماماً من أمراض نفسية واجتماعية كثيرة جداً تشكو منها مجتمعات غربية لم تدعُ ديانات أفرادها إلى حسن التعامل مع الجار. إنها الوصية التي نزل بها الروح الأمين جبريل (عليه السلام) على محمد (صلى الله عليه وسلم) حيث قال رسولنا الكريم في حديث صحيح :(لايزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) صدق رسول الله , وفي حديث آخر يقول رسولنا الكريم :(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) صدق رسول الله . إن هذا الإصرار النبوي على الاحسان إلى الجار يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الطمأنينة للانسان نفسه لأنك بإحسانك إلى الجار تحسن إلى أولادك وعرضك ومالك فمن يحميك من عدوٍ ظالم ومن يفزع لمصائبك ومن يشهد أفراحك وأحزانك؟! . في وقتنا الحاضر وبعد أن أصبحت القرى مدناً والمدن عواصم للثقافات والتركيبات الاجتماعية المختلفة.. هذا القرب وهذا الازدحام خلق نوعاً من الألفة المُحرمة - إذا صح لي التعبير - حيث يُسمِع كل منا جاره ساعة ذهابه ولحظة إيابه أصوات أطفاله ونسائه.. أحداثه الساخنة والباردة خلف جدران بيته لكنه بالرغم من هذا القرب لايستطيع التدخل للمساعدة أبداً. أتذكر قبل فترة ليست بطويلة أن جارنا القريب منا جداً ضرب ابنته المراهقة ضرباً مبرحاً حتى أنني ما استطعت أن أحتمل استغاثة الفتاة بالجيران فاضطررت لأن أخرج لإنقاذها حين لم أسمع صوتاً واحداً يتساءل عن سبب هذا الصراخ ولكني لم أجد إلا أبواباً موصدة.. كنت أنظر إلى (بلكونات) الجيران.. منها الطبيب والمحامي والتاجر منهم الصغير والكبير , الغني والفقير لم أرَ أحداً أبداً.. نحن نستأنس بهذه الجيرة فقط لكننا لا نؤدي حقها أبداً أبداً. فتصوروا أن جاراً عجوزاً لي مات ولم أعلم بموته إلا بعد أشهر من ذلك رغم أن جدار بيتي لايبعد عن جدار بيته إلا متراً واحداً.. فلماذا أصبحت علاقات الجيران محدودة إلى هذه الدرجة.. ولماذا أصبح الجار يُثير الخوف أكثر مما يسبب الأمن , ولماذا لم نعد نعمل بالحديث الشريف الذي فيما معناه : إكثار المرق إذا طبخ اللحم طلباً لتعهد الجيران فلعله وجد ريحها أو اشتهاها. أقسم أن جاراً لي يذبح العجول والماشية في فناء منزله أمام الجيران ولايسأل عن جائع أو ضامئ! بينما أعرف رجلاً ربانياً لا يجد للطعام مذاقاً حتى يدعو إليه حارس منزله وسائقه الخاص وأحفاده من الصغار والكبار ثم تراه ضيفاً وهو مضيف. بالعودة إلى جيران الهناء القدامى الذين أصبحنا نفتقدهم فإن من الضروري أن نبدأ كلٌ من مكانه وعبر ماتصنعه يداه إن كان كاتباً.. شاعراً.. طبيباً أو إماماً لمسجد.. أباً كان أو أماً.. رجلاً أو امرأة علينا أن نعيد الأمان إلى منازلنا بالعودة إلى حالة الوفاق والاستقرار مع جيراننا لأننا بذلك نزرع أنسجة الترابط الاجتماعية في هذا الجسد الانساني ونعيد الدفء الشرعي للعلاقة المتوازية والمتقاطعة في وقت واحد بيننا وبين من يشاركنا لحظات الفرح وساعات الحزن الطوال.. بيننا وبين من يقف بيننا وبينه جدار واحد.. بيننا وبين من سيكن أطفاله دارنا ويسكن أطفالنا داره. لنحاول أن نحافظ على هذه القيم العميقة التي يحفظها أبناؤنا عنا بعد حين.. لنأمر أطفالنا بحسن الجوار كما نأمرهم بالصلاة.. ألم يُقل آباؤنا الأقدمون في سفر الحكم والأمثال: الجار قبل الدار!!.. معنى هذا أن منازلنا إنما يعمرها جيراننا الذين هم أقرب إلينا من أهلينا.. إنهم عنواننا إذا تاهت عناوين المكان عن جدران الذاكرة.. إنهم وطن لمشاعرنا.. أولئك الذين لاتحلو أيامنا إلا بحلو لياليهم.