يتكون الدم من بلاسما تسبح فيها مكونات مختلفة من الكريات الحمر والبيض والصفيحات الدموية، وكل له وظيفته، فأما الكريات الحمر فتنقل الأكسجين، وأما البيض فهي الجهاز المناعي، وأما الصفيحات فهي لتجلط الدم ولزوجته, كل قد علم صلاته وتسبيحه. وتدور الكرية الحمراء في البدن وهي تنقل الأكسجين (1500مرة) يومياً في رحلة عمر تقطع فيها 1150 كم، وبهذه الكيفية لا تدع خلية أو نسيجاً أو جهازاً أو عضواً إلا وزارته، ومنحته الأكسجين بما يكفيه، فإذا زادت التفاعلات، ونشطت الاحتراقات زادت من المنح والعطاء بدون بخل، وبنفس الوقت خلصت الخلايا من مخلفات التفاعل وهي غاز الفحم ليستفاد منه إما خارج البدن لتغذية النبات، أو داخل البدن لحفظ التفاعل الحمضي القلوي، وأحسن ما يقال تباركت ربنا وتعاليت على هذا الإبداع والروعة في الخلق. إن الكرية الحمراء لا تعرف الكلل أو الملل وهي تعبر رحلة شاقة ما بين أسناخ الرئتين التي تفرش عشرات الأمتار المربعة من المساحة بتعداد يصل إلى مئات الملايين من الأسناخ، وما بين خلايا الجسم عامة، ويكفي أن نعرف أهمية هذا الأمر عندما نعلم أن حرمان الدماغ من هذا الغاز لفترة دقائق معدودة لا تتجاوز الخمس يعني دمار الدماغ تدميرا نهائيا لا رجعة فيه وباقي الأعضاء تزيد عن هذا الرقم ولكنها في عمومها لا تتجاوز الساعة الزمنية الواحدة، وكل هذه الوظيفة السحرية تقوم بها هذه الكرية المتواضعة التي تخدم البدن في رحلة جاهدة فلا تترك عضوا إلا وزارته، ولا نسيجا إلا واستضافها لفترة تطول أو تقصر، ولا خلية إلا وطرقت بابها تحمل الهدايا وتوزع الجوائز وتنقل الأخبار السارة. ولكن كيف يحدث التوازن الدموي في تصنيع كفاية البدن من الكريات الحمر؟ لأن حلقة التخريب والتجدد شيء مذهل يكفي أن نعرف أن كامل الكريات الحمر البالغ عددها 25 مليون كرية حمراء تتخرب كلها ويتجدد مثيلها كل 120 يوما، والكرية بحد ذاتها بناء معقد، إن هناك جهازاً أشبه بالترمومتر الحراري ولكنه هنا ليس للحرارة وإنما للرقابة المستمرة وبحساسية بالغة، هذا الجهاز مهمته استقصاء الدم ومعرفة ما يطرأ عليه من زيادة أو نقص في عدد الكريات الحمر فإذا شعر أن هناك نقصاً أرسل أوامره إلى نقي العظام أنْ افرز المزيد، وإن وجد الزيادة أرسل بالمقابل أنْ خفض الإنتاج لأن الكمية كافية، هذا المركز موجود في الكلية وفي مكان أمين بالقرب من كبب الكلية الداخلية وبذلك نرى أن مركز البدء هو من الكلية وبواسطة هورمون مهمته التفاوض مع نقي العظام واستعراض حالة البدن العامة، وتقدير الوضع، وترتيب النتائج وتجهيز البدن بما يلزم من كريات حمر، هو هورمون الاريثروبويتين ومهمته الرئيسية تنشيط نقي العظام على المزيد من تصنيع الكريات الحمر. إن عدد الكريات الحمر بعدد محدد هو وسطيا 5ملايين في المليمتر المكعب الواحد، وبقطر ثابت هو وسطياً 7ميكرون وبحجم محدد هو وسطياً 87ميكرون مكعب، والخضاب الذي يعتبر أساس الكرية الحمراء له مقدار محدد هو وسطياً 16غرام في كل 100سم3 من الدم، وبهذا القدر وهذا التقدير والتحديد تنسجم الوظائف، ويعم السلام البدن....وحتى يمكن تصنيع الكرية الحمراء بما يلائم فإن المواد الأولية كثيرة للغاية فهي الشحوم والسكاكر والخمائر والبروتينات والماء والفيتامينات والأحماض العادية والأحماض الأمينية، فكيف يتسنى جمع كل هذه الأخلاط ومزجها وتركيبها بما يلائم؟؟ ..والجواب أنها عملية هندسة وتركيب شاقة لمئات من الأحماض الأمينية (574) حمضاً وبشكل منظم منسق لا يشذ حمض عن حمض، ولا يبدل مكانه من موضع لآخر حتى تنجز أربع سلاسل كل سلسلتين تتشابه في البناء وهي ما يرمز إليها بالسلسلة A والسلسلة B وهذا هو الخضاب العادي، وبذلك يكون الخضاب محتوياً على سلسلتين من نموذج ألفا A كل سلسلة فيها 141حمضاً آمينياً، الوزن الذري فيها 15128، وسلسلتين من نموذج بيتا B كل سلسلة فيها 146حمضاً آمينياً وذات وزن ذري 15870، وبذلك يكون مجموع الأحماض الأمينية 574حمضاً وذات وزن كلي يساوي 64450وزن ذري(الوزن الذري هو من نوع خاص حيث تمثل وحدة الوزن هنا بروتون واحد أو نيترون واحد، ويعتبر الهيدروجين أبسط الأوزان أو وحدة الوزن الأولية باعتباره يحوي بروتوناً واحداً، وبذلك يمكن معرفة وزن ذري لعنصر ما بقدر احتوائه على ما يساوي من ذرات الهدروجين فمثلاً الماء يزن 18 والحديد 16 وهكذا...) . وهناك في أعماق النقي يبدأ التفاعل ما بين الكوبالت والسيانور والفيتامين ب12 والنحاس والحديد والفيتامين ب6 وحمض الفوليك ليخرج هذا الجنين الصغير المسمى بالكرية الحمراء!!... وأما دورة التجدد والتخرب فيجب أن نعلم أنه بهذه الكيفية يتخرب في كل ساعة حوالي عشرة مليارات كرية حمراء ويتجدد مثيلها أي أن ما يتكون يوميا هو 240مليار كرية حمراء وهو في السنة 87600 مليار كرية حمراء، وهو في معدل حياة وسطية تمتد نصف قرن 4380.000 مليار كرية حمراء، وهذه العملية الجبارة من النقض والبناء تخضع لسيطرة مدهشة واتزان دقيق، ويكفي أن نعلم أن نفس هذه الطاقة يمكن أن تتضاعف إلى 67 أضعاف أثناء الأزمات وبذلك يمكن أن لا يظهر فقر الدم عند الإنسان إلى درجة انخفاض متوسط عمر الكرية الحمراء من 120يوماً إلى 1920يوما، وذلك لقوة الاحتياطي الموجود في الجسم.