اللغة في الأصل تعبير صوتي صادر عن الإنسان، ضمن متوالية جبرية لتراتب الحركة والسكون، فيما يشبه الخوارزميات الرياضية المموسقة.. تستوي في ذلك كل لغات البشرية المكتوبة، ولا فضل للغة على أخرى من هذه الزاوية. وهذه المساواة اللغوية العالمية نابعة من المساواة الإنسانية، فالإنسان هو الإنسان من حيث قابلياته الأساسية صوتاً وتعبيراً، ومن حيث كيمياء تركيبه البيولوجي، وبالتالي فإن الكلام الصادر عن الإنسان يتناسب طرداً مع هندسته البشرية التي صنعها الخالق لتكون مثالاً أقصى للتوازن والإعجاز. اللغة نابعة من الإنسان بوصفها صوتاً، ثم تترجم بعد ذلك إلى صورة مكتوبة، وتصل هذه الصورة إلى مداها الأقصى في التجريد والاختزال، فإذا كنا نقول مثلاً إن الصينية لغة أقرب إلى تماهي التجسيد بالتجريد من حيث كونها خالية من الحروف، فإن العربية واللغات الأوروبية المعروفة يعانقون التجريد؛ لأن هذه اللغات تعتمد على التبادلات والتوافقات اللسانية والتشكيلية بين الأصوات والصور. والشاهد هو أن هذا التجريد يصل مداه الكامل في العربية لأنها لغة تعتمد الاختزال الكتابي بحيث تتوارى عن الأنظار الصوتيات كالفتحة والكسرة والضمّة، والتنوين بأنواعه الثلاثة، والشّد والمد، وهو أمر غير وارد في اللغات الأوروبية بعامة، حيث نجد أن تطابق الصوت مع الصورة شبه كامل، فلا صوتيات خارج المكتوب. ماذا يعني ذلك؟.. إنه يعني ببساطة فضاء العربية الأكثر تطوراً بالمنطق اللساني والبصري.. والعجيب الغريب هو أن هذا التميز يعتبره بعض المناطقة الشكلانيين واللغويين المنبهرين سبباً في ضعف العربية، لكن علوم اللسان والبيان تُبين عكس ذلك تماماً. لا أقول هذا الكلام تعصباً للعربية التي لم أتعلمها شخصياً في المدارس والجامعات، ولكن أقولها لأنها حقيقة بسيطة يعرفها كل دارس حصيف للغات الأجنبية.. وللحديث صلة.