يشهد عدد من الدول الأوروبية هذه الأيام اضطرابات عمالية ومعيشية احتجاجاً على السياسات التقشفية وخفض الميزانيات بما فيها الدفاعية والتقاعد, كالذي يجري في فرنسا لما يقرب من نصف شهر, إذ تتطور المواجهات بين الشرطة والعمال الذين أجبروا مصافي البترول على التوقف فخلت محطات توزيع الوقود في أنحاء البلاد من أي مخزون, وبلغت طوابير السيارات والشاحنات من ميل إلى ميل ونصف للحصول على بضعة لترات من البترول أو الديزل. والرئيس ساركوزي مصمم على تنفيذ هذه الخطة التي لم يحددها بزمن معلوم, وقد أقر البرلمان الفرنسي تلك الخطة, أما المحتجون على رفع سنِّ التقاعد من ستين إلى اثنين وستين فقد أكدوا بأنهم سيواصلون احتجاجاتهم وإن استخدمت الشرطة ضدهم العنف, متجاهلين كل التحذيرات من مغبة شل الحياة في فرنسا كلها, ومنتقدين البرلمان على موافقته المؤذية لهذا الجيل ومابعده من القانون التقاعدي الجديد؛ لأنه ببساطة كما يقولون سيحّول جهود الموظفين لمصلحة غيرهم من خلال العمل فترة أطول فلايتاح لهم العمل بعد التقاعد في القطاع الخاص أو في مهمة خاصة. أما في بريطانيا فقد هبت عاصفة قوية معادية لحكومة “ديفد كاميرون” المحافظ, التي مضت قدماً في تخفيض الميزانية وخاصة مايتعلق بالقوات المسلحة باستثناء القوات العاملة في أفغانستان نزولاً عند مخاوف الولاياتالمتحدة من أن تحذو حذو بريطانيا دول أوروبية أعضاء في حلف الناتو, وكلها تملك وحدات عسكرية تقاتل حركة طالبان بأفغانستان وباكستان, وقد جرى سجال بين رئيس الوزراء والمعارضة العمالية في مجلس العموم اتسم بحدة الاتهامات المتبادلة عن وصول الامبراطورية العظمى التي كانت لاتغيب عنها الشمس إلى هذا الوضع المأساوي كما يراه البريطانيون بصفة عامة. وقد طالت الإجراءات التقشفية في بريطانيا الأسرة المالكة بأن خصم من اعتماد قصر باكنجهام عدة ملايين من الجنيهات الاسترلينية, مع الإشارة إلى أن اليورو ليس له مكان في بريطانيا؛ رغم أنها عضو رئيس في الاتحاد الأوروبي, ولم تعترض الملكة على ذلك بل أمرت كل أفراد الأسرة بالتقيد بقرارات الحكومة لإعطاء الإصلاحات المالية دفعة قوية تشجع الآخرين على الاقتداء بها؛ لأن الوقت غير الوقت ولتفادي ماهو أسوأ وأكبر من قدرات الحكومة البريطانية وغيرها في أوروبا وأمريكا وآسيا(الغنية) كواقع محتوم ناتج عن الانهيار السريع لأسواق المال والبنوك والمصانع الكبرى قبل أكثر من عام ونصف لم تنفع معه كل الإسعافات من البنوك المركزية بمئات المليارات ليسترد عافيته وخاصة في الولاياتالمتحدة التي أفلس فيها مايزيد عن مائة وستين بنكاً حتى الآن. وفي أسبانيا وإيطاليا والبرتغال تواجه الحكومات شتاءً ساخناً لاتقل حرارته عن فرنساوبريطانيا, وأن التدهور الاقتصادي والمالي والصناعي ربما يفوق ماحصل في الولاياتالمتحدة قبل حوالي ثمانين عاماً, غير أن الفرص في ذلك الوقت متاحة لإنعاشه بسرعة مكنت الولاياتالمتحدة من قيادة اقتصاد وصناعة العالم إلى الأمام.