موجة الغلاء لم تترك صغيرةً ولاكبيرة إلا وأضافتها إلى قائمة الشراء الممنوعة في كل بيت, فبعد أن أصبح البرتقال أمنية والتفاح حلماً بعيد المنال والكمثرى مشروعاً مستقبلياً لما بعد التخرج, أصبح الكثير من منكهات الطعام ومستلزمات الطهي اللذيذ ممنوعاً منزلياً؛ لأنه يخل بميزانية الأسرة التي لاتفعل شيئاً سوى أنها تنقذ الناس من الموت إنه (الطعام الرّمق) الذي يحول بيننا وبين أن ننزل قبورنا جوعاً! أقسم أني أعرفُ أُسراً ترى في علبة الزبادي فضلاً مبيناً من الله لذا لابد من أداء ركعتي شكر لخالق الأرض والسماء, وهي فعلاً نعمة تستحق الشكر, لكن انظروا كيف أصبحنا عبيداً لبطوننا نُصلي للإفطار ونبتهل للغداء ونقنت للعشاء وهكذا. الوزف أو صغارُ السمك أو “فياجرا” اليمنيين الفقراء أصبح على قائمة الممنوعات في بعض القرارات الأخيرة لدى وزارة الداخلية (الزوجة) والتي لازالت تحت دراسة وزارة الخارجية (الزوج)؛ لأنه ربما كان للوزف أثر السحر في علاقة الزوجين الحميمة! وبعد أن وصل سعر النفر الواحد إلى ألف ريال وأحياناً أكثر لم تعد رائحة الشنيني عبقةً كما كانت حين كنتُ خالية من طعم المسؤولية, واشتهي أن اشتم نسيم البحر أستقل أطرف حافلة وأدخل “الشنيني” حيث أملأ رئتي بهذا النسيم البحري المتعفن, ولعلي عندها كنت أعاني من (نوبات الوحام) المُلحّة.. غير أني اليوم وقد أصبحت مسؤولة عن أطفالي لم أعد أرى في تلك الرائحة ما يعنيني, وإنما أصبحت أهتم أكثر بسعر ذلك النفس العميق الذي يملأ رئتي وأنا أقوم بشي آباء الوزف وأمهاته أمام عيني (حمادة) طفلي الذي يشاركني أفكار الطعام بحلوها ومرها. الغلاء لم يترك للناس فرصة تذوق لحظاتهم السعيدة ومشاركة أبنائهم مراحلهم العُمرية المختلفة, إذ يكتفي الآباء بتوفير الحاصل, وتكتفي الأمهات بطهي الحاصل, ويقنع الأطفال بأكل الحاصل، وكلٌ يسبحُ في مجرة خالية من الكواكب والنجوم لكنها ليست خالية من الشُهب والنيازك أبداً..المواد الغذائية أصبحت بسعر الذهب(شوال) الأرز مثلاً يصل سعر “البسمتي” منه إلى خمسة عشر ألف ريال!..وأذكر أنني وقعت في حيرةٍ بالغة وأنا أختار نوعاً جيداً من الأرز لمطبخي حيث تبادر إلى ذهني أن خمسة عشر ألف ريال يمكن أن توفر لي خاتماً من الذهب!! السُكر أيضاً أصبح مُراً للغاية فلا فرق بينه وبين الملح معنى؛ لأنه باهض بالنسبة لمعاشات الناس, بل إن البعض يستثنيه نهائياً من قائمة المشتريات المنزلية, ولم يبق في القائمة إلا الدقيق!.. نعم فقد استثنينا اللحم منذ سنوات مضت والدجاج منذ عامين تقريباً والفواكه والخضار ليست ضمن القائمة الثقافية لدينا منذُ القدم والأرز والسكر منذ عام, وإذاً لم يتبق إلا الخبز كغذاء رسمي في جميع البيوت, أضف إلى ذلك الوزف الذي كان نِعم الإدام لدى الكثيرين والنتيجة أن الخبز والماء والحاجةُ القصوى أصبحت هي غذاء شريحة كبيرة من الناس, والعجيب في الأمر أنهُ كلما ارتفعت نسبة الفقر والحاجة ورأيت الأرصفة تضيق بمن عليها من متسولين وباعة متجولين تجد بالمقابل سيارات فارهة لم تكن تطأ أرض تعز قبل اليوم وبشر من نوع آخر بأكتاف عريضة وأجساد مفتولة وخدود موردة بلون الأقحوان البلدي عديم الرائحة! السؤال: إذا كان هذا هو حال غذاء جيل كامل من الأولاد والبنات كيف سيكون منسوب الدخل القومي فكرياً ومادياً بعد عشر سنوات من الآن؟!! أحياناً تهتز مشاعري كثيراً فأكره الذين لم يزرعوا ولم يعلموا الصغار أن يبذروا.. ولعلي هكذا لخصت مشاعري في جملة مفيدة حين أوردت السيدة عائشة أم المؤمنين في حديثها عن أيام الفقر التي عاشها بشر لوطلبوا من الله جنان السماء لأعطاهم إياها قالت بما معنى الكلام: كان يمر على بيت رسول الله الهلال والهلالان (أي الشهر والشهران) ولم يوقد فيه نار وكان جُلُّ طعامنا الأسودان(التمر والماء) أي الغذاء السائد آنذاك..والحقيقة أن فقراء هذا الزمن لو صبروا وأخلصوا سيدخلون الجنة قبل أغنياء أزمان أخرى؛ لأنهم لايجدون الأسودين أبداً, فالتمر في العصر القديم كان فاكهة الفقير وطعام الغني, ولعلي أذكر بيتاً من الشعر منذ سنوات طويلة يصف التمر فيقول: طعام الفقير وحلوُ الغني وزادُ المسافر والمغترب ربما أعطي نفسي الحق دائماً في الكتابة عن الفقراء وما قد يؤدي إليه استفحال الفقر ذلك لأني أرى أنه لا أقسى على النفس من وطأة الجوع والحرمان, إذ يستطيع الإنسان إشباع جوعه العاطفي بالقناعة وجوعه الفكري بقراءة واقعه, لكن البطون الجائعة لاتعرف إلا الطعام لتصمت.. من يأبهُ لقلوبٍ خاوية أو يعلمُ مافيها؟! طبعاً لا أحد.. لكني أستطيع قراءة تعابير الجوع على وجوه البشر.