يصعب بل يستحيل وضع تاريخ معين لعلاقة الاستلهام والشغف والانبهار والتأثير والتأثر القائمة بين الفنان والطبيعة بكل تجلياتها وظواهرها فهي علاقة أزلية تعود إلى نشأة الإنسان الأولى وبالتالي فإن تاريخها هو تاريخ البشرية على سطح الأرض . ورغم سطوع التجريب – بمذاهبه المختلفة – مطلع القرن العشرين الذي ابتعد بالإنسان – موضوع اللوحة والإنسان المتلقي بالتالي - عن الطبيعة الأم كرد فعل تشاؤمي على العنف المفرط الذي حملته حروب القرن الماضي إلا أن الانطباعية كانت الأكثر سطوعا بوفائها الحميم لتناغم الطبيعة وهدوئها وشاعريتها الأخاذة كملاذ رحيم للكائن . ويمكن للمتتبع لحركة التشكيل المعاصر أن يعزو عودة الفنان الحديث إلى تأمل المعجب المتعجب في الطبيعة متسلحا بأدواته الحداثية كجزء من إعادة الاكتشاف الذي يصبح اليوم أحد أهم مسؤوليات الفنان التشكيلي بهذا المنظار يمكننا الولوج إلى (رؤى يمانية) المعرض الشخصي الثاني للفنانة اليمنية لمياء الكبسي (على قاعة مؤسسة السعيد في تعز 30ديسمبر 2010 – 7 يناير 2011) بعد عدة مساهمات في معارض مشتركة. تسعى لمياء لاكتشاف التناظر المتناغم في تجليات الطبيعة و تعرض لوحاتها في ثنائيات متناظرة مقصودة بدءا بلوحة المرأة – الأم التي يشطرها أفقيا إلى نصفين نسيج يراد منه الإيحاء إلى الحزام اليمني الشعبي يستند إلى أرضية زخرفيه من العمارة الصنعانية الشائعة. ثنائية (راعية من وصاب وأطفال وصاب) تسودها بهجة لونية زاهية تنعكس في وجوه الأطفال الصافية المرحة. الفتاة الراعية التي يستكين في حضنها الحمل الصغير تعود بنا إلى رؤى الطبيعة التقليدية عند الرومانسيين الأوائل منذ وليم بليك وكيتس: الراعي والحمل: الحامي والمحمي في كنف الطبيعة الآمنة. لكن لوحتي (وجه الشر) تسودهما عتمة لونية جاثمة تلجأ فيها الفنانة إلى تقنيات التجريب لإلغاء ملامح الوجه الحقيقية كناية عن الإبهام الشرير ويتعاكس الوجهان في اللوحتين بالحركة واللون وكذلك الجموع البشرية الهلعة المستغيثة في الأسفل . يعود التناغم في لوحتي ( رجل من سوق الملح ) و (صنعاء القديمة ) يتناظر الأسود والأبيض في اللوحتين ليعكس تعبيرا أخاذا على الوجه الشعبي للرجل اليمني المسن بتقاسيم وجهه الحادة والأليفة . التبادل اللوني نفسه : أسود – أبيض – أسود –أبيض الذي تتكون منه كوفية الكهل يمتد ليشكل بنية البيت الصنعاني القديم في اللوحة المجاورة المكملة يعود التناغم بالزيت بدل الفحم ساطعا مرة أخرى على وجوه الطفلين في لوحتي (كتابي شمعتي). يتطاول التناظر البيئي الطبيعي إلى تناظر كوني تنشطر فيه اللوحة إلى أخرى فأخرى بنفس التفاصيل ولكن بسطوع لوني مغاير في لوحات (تغير اللون في الكون) التي تحمل بعضا من أسماء الله الحسنى تحل محل الشمس المشرقة في أعلى اللوحة. لكن الظهور الأكبر للطبيعة عند لمياء الكبسي سيتجلى على مستوى الصورة وتقنياتها في لوحات ( الجنبية الذهبية وحصن الغويزي والبيوت المتسلقة للجبال). لا يقتصر لجوء لمياء الحميم إلى الطبيعة الساحرة من حولها على اختيارها للألوان الأليفة الهادئة التي ترتاح لها العين المتلقية في الآجر الصنعاني لتعكس حميمية البيت الآمن في حضن الطبيعة فحسب بل في اختيارها – الذكي - لمادة الحصير الشعبي لتنفيذ اللوحة اختيارا موفقا يخدم تقنية العرض إذ تمتص مادة الحصير اللون وتعكسه دون تشتت كما يخدم كثيرا ثيمة اللوحة وإيحاءاتها الكامنة في أن الحصير هو أصلا من سعف النخيل . تستفيد لمياء من تراتبية الحياكة في مادة الحصير الطبيعية لترسم بها بنية البيت اليمني والحزام الذي يضم الجنبية الذهبية مثلما استفادت سابقا من نسيج الكوفية في تشكيل بناء الدار وتختم حركة العرض الدائرية بلوحة(شروق الشمس في صنعاء) التي تستخدم فيها كولاجا من قطع الزجاج يعكس شعاع الشمس الذهبي المتلألئ الذي يغمر البيوت الصنعانية الغافية في أمن وأمان . [email protected]