“إن أفلاطون عزيز عليّ ولكن الحقيقة أغلى على قلبي”. هذا ما قاله أرسطو الذي كان تلميذاً في (أكاديمية) أفلاطون في أثينا، ولكنه استقل بفكره عنه. يعتبر دماغ أرسطو من أعظم الأدمغة اللامعة التي عرفها الجنس البشري على مر العصور، غزارة في الإنتاج، وإبداعاً في العطاء، وصقلاً للمعرفة وتنظيماً لها، ومؤسساً لأشياء في غاية الأهمية، كما هو الحال في المقولات العشرة لتحديد أي شيء إطلاقاً (الزمان المكان الوضع المادة العلاقات إلخ). ومع ذلك فقد كانت بعض أفكاره من أعظم الإعاقات العقلية في رحلة مغامرات العقل الإنساني، كما في المنطق الصوري، أمام المنطق الاستقرائي؛ بل قادت هي وأفكار بطليموس إلى كوارث عقلية واجتماعية وحرق واضطهاد العلماء. وهذا يعلمنا أن لا نسلم عقولنا لأي كان أرسطو أو غيره، وأن الحق يتبع، والرجال يقاسون بالحق، وعلى الحق، وليس العكس، أي دخول علم الأفكار وليس عبودية الأشخاص. ويعلق عالم الاجتماع العراقي (الوردي) في كتابه (مهزلة العقل البشري) على منطق أرسطو الثلاثي: (كل إنسان فان, سقراط إنسان, سقراط فان). إن بعض تطبيقات هذا الكلام يقود إلى كارثة حقيقية، حينما تكون نقطة الانطلاق خطأ، كما لو قلنا إن الصعود إلى السماء مستحيل, والتقرير الأولي يحمل في بطنه كل المشاكل. وحينما اطّلعت على الفلسفة، خطر في بالي مشروع جريء، وهو أن الناس تنظر إلى الفلاسفة في التاريخ، بمنظار مزدوج من الشك أو الأحجية؛ أي أن الفكر الفلسفي هو إما غير مفهوم، كما يروي لي أنا شخصياً بعض من يقرأ لي أنه لا يفهم عليّ كثيراً مما أقول، وأكتب، أو الموقف الثاني وهو أنه يقود إلى الزيغ والضلال. والفلسفة ليست ضلالاً ولا ألغازاً، بل جذع شجرة العلوم، ورحم المعرفة، وبهجة الفهم ولذّته، كما قال اسبينوزا الفيلسوف الهولندي منذ القرن السابع عشر. إنها إذاً ليست هذا ولا ذاك, بل هي متعة عقلية، وتحرير لإرادة الإنسان، وصقل عقله تجاه المعضلات، وإجابات رائعة عن تساؤلات مزعجة، كما أنها رفع للإنسان إلى مستوى الإنسان، أن يصبح كائناً رائعاً، ليس أنه يأكل ويشرب؛ بل يفكر, والفلسفة بهذا ترد الإنسان إلى إنسانيته حينما تميزه بالتفكير. ومشكلة الفلسفة أنها تكتب في كثير من الأحيان بكثير من التعقيد، ولذلك كان المشروع الذي خطر في بالي، أن أهضم التراث الفلسفي كله، وأعرضه على عقل الإنسان المسلم، وهو يماثل مشروع الأحاديث الحيوية التي سأشرحها لاحقاً عن الاستفادة من التراث النبوي، فنعيد ذلك النشاط العقلي الذي كان في الفترة الذهبية من التاريخ الإسلامي، حينما كان العلماء وطلابهم يناقشون أعوص المسائل الفكرية في المساجد، ولا يجدون حرجاً في ذلك، حيث كانت الجوامع جامعات. وهذا المشروع اشتغل عليه عبدالرحمن بدوي، وأبدع فيه، ولكن مشكلته أنه تراث ضخم لا يقرأه إلا الصابرون النادرون، وما نحتاجه ذلك التراث الفلسفي السهل بحيث ننشر ثقافة فلسفية شعبية, وهو ما قاله الوردي عن وظيفة السفسطائيين أنهم كانوا أشبه برواد شعبية المعرفة في أثينا يومها. وانتبه إلى معنى (الجامع) في الإسلام الكاتب الليبي (النيهوم) حين قال إن الجامع هي من كلمة جامع لكل شيء، ونحن نعلم أن عائشة رضي الله عنها رأت رقص الحبشة بالحراب في فناء المسجد من خلف كتف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما كان المسجد مكان عقد الألوية للقيادات العسكرية. ويجب أن نفكر بجدية في كيفية إنعاش العقل المسلم بإدخاله المعاصرة, وفكر أرسطو يفيد حينما نستعرض تاريخ مغامرات العقل الإنساني، فهذا الرجل ولد في ستاجيرا عام 384 قبل الميلاد، أي أننا اليوم نتكلم عنه بعد موته بألفين وثلاثمائة عام، وهذا يعطي الانطباع عن أثر هذا الإنسان في الفكر الإنساني. وفي إجازتي الفائتة اجتمعت بكتاب عبدالرحمن بدوي في ثلاثة مجلدات عنه فاشتريته بفرح، من أجل التعرف عليه أكثر، وفي مكتبتي معظم مؤلفاته التسعين. كان أرسطو معاصراً لفترة حكم الاسكندر الأكبر، وعمل مدرساً خصوصياً له، وهذا ما جعله يدفع الثمن لاحقاً، حينما ثارت أثينا ضد مكدونيا، حيث يحكم خلفاء الاسكندر. وأهم ما تركه أرسطو كان في السياسة ودراسة الطبيعة، وكان يحب التنقل والتعرف دون ملل، ويعيش طفلاً يحمل روح الدهشة والفضول والاستغراب والمعرفة. وهو الذي ابتكر طريقة الحوار في الهواء الطلق مع النقاش، مما جعل أتباعه يأخذون اسم المشاءين، مثل الرواقيين لاحقاً (Stoicism) الذين كانوا يمشون في الأروقة ويتبادلون أعظم الأفكار الفلسفية وأعقدها. وعلم الإنسان ما لم يعلم وكان فضل الله علينا عظيما.