يرتبط التقدم في أي مجتمع ارتباطاً عضوياً بالثقافة السائدة فيه، ولا يمكن فصلهما أو الإدعاء بأنهما منعزلان، ففي كل ثقافة مجموعة مبادىء تمثل تربة خصبة أو طاردة للنمو بما تستبطنه من معايير ونماذج معيقة أو مساندة، فقيم العمل وتقديس العمل والشفافية والتضامن الإنساني تمثل وقوداً لأي نمو وتعمل على تسريع النمو وتحديد اتجاهه لمزيد من تعظيم الفرص وتثمير الإنتاج، كما تعمل قيم الزهد والقناعة والاتكالية والتسليم بالحتمية الجبرية على تثبيط النمو. ولا شك أن وضع الثقافات في تصنيف تراتبي هو عمل تبسيطي مخل، ولكن بالنظر إلى الثقافة اليابانية والغربية سنجد أنها تحتضن مصفوفة من القيم التي تبجل قيم النقد والعمل وتجعل الفرد محور اهتمامها بل في أعلى سلم أولوياتها، على عكس الثقافة العربية التي ما زالت في معظمها ترى النقد مرادفاً للتشهير والقدح وتجعل الاتكال صنو الإيمان وهذا على سبيل التمثيل وليس الحصر. إن تفسير التقدم والنمو عبر الاستناد إلى الثقافة والمضامين القيمية في المجتمع خطف اهتمام الكثير من المفكرين الاجتماعيين، وعلى الرغم أنه لا يقدم سوى تفسير “جزئي” لديناميكية الحضارات أو ترهلها، إلا أنه يقع في قلب المفاتيح التي تستخدم لتقييم ونقد عملية النمو والتقدم الإنساني. وسيظل هذا التفسير قاصراً ما لم يتكامل مع عوامل إضافية أخرى كالثروة والجغرافيا ونوعية المناخ وطبيعة النظام السياسي بما يتيحه من شراكة في الحكم وما يتضمنه من المساواة والمواطنة وسيادة القانون. فلا يكفي وجود ثروة طائلة لحدوث النهضة ما لم تحصن تلك الثروة بنظام من الشفافية والرقابة المجتمعية وتفعيل أدوات القانون والنظام المؤسسي، وقد رأينا كيف تحولت العراق بثروتها إلى لقمة سائغة لقوى الغرب الحديثة، وما آلت إليه ألمانيا زمن النازي هتلر إلى خراب، فصحيح أنها صنّفت ضمن الدول المصنعة ولكن الاستدامة لهذا النمو لم تستمر لغياب الضمانات الحقيقية كالديمقراطية والعدالة في توزيع الثروة والمغامرات الفردية. وليس صدفة إذن أن نرى الغرب يهتم بمفكريه ومثقفيه لأنهم كانوا طليعة الثورات، وما لفكرهم من صدى ووقع في العقل الجمعي الأوروبي. فالتغيير الثقافي يتوازى مع التغيير الاجتماعي والسياسي، إن لم نقل يسبقهما، وهذا سر محنة المثقفين عبر العصور ذلك لأنهم أول من كان يبشر بالتغيير وأول من يشعل الشرارة، واليد التي توضع على زناد التحول.