أتذكر من طفولتي عندما كنت أساعده في عمله بالدكان أنه كان في أيام العيد يبيع نوعاً من السكاكر زهيد الثمن رديئاً قاسياً على العض وكان هذا معروضاً بوفرة في مقدمة المحل في أوعية كبيرة, في الوقت الذي كان يبيع من داخل المحل سكاكر فاخرة طرية المأكل أنيقة التغليف في علب جميلة. فكنت أتعجب وأنا طفل من ذلك فأسأله عن السر, كان يقول لي: يا بني هذه السكاكر التي في الداخل كما ترى قليلة ليست مثل التي في الواجهة الكثيرة. فالموضوع ببساطة أن أهل المدينة عندهم من المال ما يشترون هذا الفاخر, أما أهل الريف فهم فقراء ولذا فهم يشترون الرخيص, ومحلنا لا يعيش على العائلات القليلة في المدينة بل الكم الكبير من أهل الريف الذين يستهلكون الكثير من هذه السكاكر الرديئة. وهي لنا رديئة أما لهم فهي أجود من الجيد, فأسنانهم طاحنة ومعداتهم هاضمة وهم يكدحون طول النهار في الحقول. هذه القصة رويتها البارحة لصديق لي نخرج يومياً فنتفسح على طريقة الفلاسفة الرواقيين الذين كانوا يفضلون تطارح الأفكار في الهواء الطلق في رواقات ممتدة طويلة للمشي. وكان سبب روايتي للقصة قوله إن فلاناً قد لمع في الفضائيات دون إثارة من نور. قلت له إن الميديا رهيبة, فهي تلمّع التافه وترفع الوضيع, وتظهر على الشاشة الرقيع الذي يجيد الحكي والثرثرة. والمهم هو شكل يعجب الناس, وحنجرة تقرقع وصوت عالي الطبقة ونفاق دون حدود. والبارحة تصفحت مجلة لأن فيها مقالة لكاتبة لا بأس بها وليس من عادتي تصفح المجلات لأن الكثير لغو ومضيعة للوقت. كما أنه ليس من عادتي مشاهدة المحطات الفضائية, وكلما أصغيت إلى صياح وزعيق المتكلمين وتبادلهم الشتائم والتشكيك وتفاهة المعلومات وحالة المستوى أتندم على الوقت الذي أضعته بين ظهرانيهم, وأعرف أن العالم العربي هذه الأيام قد كسفت شمسه وخسف قمره من تاريخ العالم. ولذا فأنا في نهاية نهاري ألجأ إلى قناة الديسكفري بعد يوم مليء بالبناء المعرفي, فهي علم مكثف مفيد ويأتي مترجماً. ولكن مشكلته أن فيه اشتراكاً بمبلغ كبير, وأنا علمت نفسي أن لا أبخل في العلم فأنفق دون تردد وبسخاء لأنه أعظم استثمار. والمهم فعندما تصفحت المجلة المذكورة وقع نظري على كاتبتين وأحياناً على كتّاب قد كتبوا وكتبن كلاماً نثرياً على أساس أنه شعر حديث. فقلت في نفسي: هل لو أتينا بطالب ثانوية متوسط المستوى من أي مكان سيكتب أقل من هذا؟! إنها العلاقات على ما يبدو أكثر من الكفاءات. وفي أمريكا قامت مجلة بتجربة فريدة حين استقبلت المقالات مفصولة عن الأسماء للتقييم لتكتشف أن أفضل المقالات كانت من أناس مجهولين ومن شابات في مقتبل العمر ومن أوساط بسيطة. والمهم فاليوم يقبل الناس على استهلاك التافه والرديء من المحطات الفضائية كما كان والدي يبيع السكاكر الرديئة مضطراً لأن هذا الذي يشتريه الناس ويقبلون عليه. “والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا”.